من فضلك اختار القائمة العلويه من القوائم داخل لوحة التحكم

فوق المصطبة

 بقلم : علي عبد الرحمن الحديثي

الأيام تتهاوى في بئر الزمن، وأنا أجلس على المصطبة البعيدة أراقب ما يحدث.. الخوف من النهاية يحفر تمثاله فوق نظراتي.. تركت المكان، ورحت أبحث عن حبل أشد به الأيام بعضها إلى بعض، لعلي استبقي على بعض منها لأحيا بها.. لكن ..أيامي لم تزل تتهاوى في بئر الزمن..

أناس شتى مروا بي..أهلي.. زوجتي.. أطفالي .. أصدقائي .. صويحباتي اللواتي طواهن الأمس.. أناس لا أعرفهم جاؤوا من أقصى الأرض.. كلهم كان يأخذ حفنة من أيامي ليلقي بها في البئر، كلهم اشترك في الجريمة.. وبلا شك.. أنا مجرم مثلهم، إلاّ أن الفرق بيني وبينهم أن لي قلماً أبصر به ما تفعله الليالي بأيامي، ولكن للأسف قلمي يشبه الفلاسفة الذي يجلسون الساعات والليالي ليحللوا.. ويؤولوا.. ويفسروا مايدور في العالم، من دون أن يغيروا شيئاً منه لينقذوا ما تبقى من الأيام….

لم أجد الحبل، عدت إلى مصطبتي البعيدة، لعلي أتمكن من سرقة يوم أو يومين من أيامي المسلوبة، ولكن يبدو أن بئر الزمن قد استلذ أيامي، فكان حريصاً أن لا ينجو منها أي يوم، حتى باتت حياتي بلا  أيام أعرفها أو أعيشها.

لم يزل الناس الشتى يمرون بي، إلاّ أنهم كانوا يتأسفون إذ لم يجدوا أياماً يلقون بها، فلم يعودوا يروني، فكلّما مرّ بي اثنان تحدث أحدهما إلى الآخر:

    –    قبل أيام.. وربما قبل سنوات.. كان على هذه المصطبة رجل بلا أيام..

    –    نعم أذكر ذلك، فلطالما تسلينا بأيامه ونحن نلقي بها في بئر الزمن ..

 أمّا الأطفال فكانوا يأتون الى المصطبة، فليعبون عندها لعبة استحدثوها بعدي أسموها (بئر الزمن)، فيجلس أحدهم مكاني ويقلدني في حركاتي وسكناتي، فيمر الأطفال به، فيفعلون معه ما كان يفعله الناس شتى معي.. فهذا يسخر.. وذاك ينظر بازدراء.. والآخر يتجاهله.. بينما يرسله الآخر ليشتري له السكائر.. وآخر.. وآخر.. ليختموا لعبتهم بقهقهاتهم الطفولية..

أمّا النساء فكنّ يأتين إلى المصطبة ليؤدين بعض الطقوس الخرافية، وكأنني من أئمة العصر.. وبدأ السواح يرتادون المكان ليلتقطوا عنده الصور.. أمّا أنا فلم أزل فوق المصطبة أراقب ما يدور، أحاول أن  أستفهم منهم، أو أمنعهم .. ولكن..

أخذ الخوف يدبّ في قلبي وأنا اعد الأيام.. واحد.. اثنان.. عشرة.. تسع وتسعون… الأعداد تتزايد وأنا أجلس مكتوف اليدين.. فقررت أن أفعل شيئاً، فركضت مسرعاً نحو البئر.. سأمنع اليد التي تلقي بأيامي.. أو سأغطي البئر بأي شيء.. ركضت .. ما زلت أركض .. ياللهول! ما أبعده !.. ما زلت أركض، كنت أراه قريباً جداً مني.. ما زلت أركض حتى أصابني الإعياء واليأس من الوصول إليه، فأوقفت إحدى سيارات التاكسي، طلبت منه أن يوصلني إلى ذلك البئر، فحدق بي وهو وينقل نظراته بيني وبين البئر اللاموجود، فجاراني معتذراً بأنه سيذهب في الإتجاه الآخر… يا لغبائي، لقد نسيت أنهم لا يمتلكون أقلاماً يبصرون بها، فتركته على عجل قبل أن يفتضح أمري بين الناس فيتهموني بالجنون، عدت إلى مصطبتي وقد امتزج خوفي بتعبي بحيرتي، فاستلقيت فوقها، فلربما أرى في غفوتي حلاً لأيامي..

وفي المنام رأيت أنني استيقظت، وعدت إلى بيتي.. ألاعب أطفالي، وأداعب زوجتي، واتصلت بأمي لأطمئن على أخبارها.. وفي صباح اليوم التالي توجهت إلى مدرستي.. وانتهى الدوام .. و .. و .. بقيت مستلقياً فوق المصطبة.

نبذة عن الكاتب

مقالات ذات صله

١ تعليق

  1. wissal

    رائعة استاذ علي .. تحملنا آفاقك لعالم لانراه بالعين المجردة …نظرة اديب يملك كل الحس وعمق التحليل
    اعتدنا دائما أن تكون في مقدمة من يكتب القصة
    اشكرك ونتمنى المزيد
    وصال شحود

الرد