من فضلك اختار القائمة العلويه من القوائم داخل لوحة التحكم

لثلاثة أيام…. فقط

بقلم: تاج عبيدو

انتظرتْ للحظات قبل أن تفتح لها أختها الباب, استغربت العتمة التي تخيم على المكان ثم أضيئت الأنوار مع أصوات الموجودين قائلين للقادمة : كل عام وأنت بخير

أيضا للحظات ظلت رشا واقفة مكانها من دهشة الفرح, و لم تجد الحروف منها مخرجا, فقط الدمع سال على وجنيتها, إنها المرة الأولى بعد أربعون عاماً تحتفل بيوم مولدها, توفيت والدة رشا إثر مرض عضال وكانت رشا في الثامنة عشر من العمر وأختها وداد في الخامسة عشر و كنان في الثانية عشر.

تركت رشا المدرسة وكانت لأخوتها الأم ثم الأب الذي توفي بعد والدتها بسبع سنوات, رفضت عروض الزواج رغم إغراءات البعض منها, وآثرت البقاء ليبقى أخويها تحت جناحيها و نسيت نفسها فرحها كان عندما تنجح أختها و حزنها كان عندما يمرض أخيها و كانت فرحتها الكبرى عندما تزوج الاثنان و أصبح لديهما أولاد, ومازالت رشا ناسية نفسها وتلبي كل طلباتهما فعندما تلد أختها تكون معها و عندما يسافر أخيها تكون مع زوجته وأولاده .

جلست رشا بعد أن شكرت أختها و أخاها اللذان كانا صاحب فكرة الاحتفال , وشكرت الحضور, وضحكت ببراءتها المعهودة عندما وجدت أربع شموع فوق قالب الحلوى, وقالت : نعم كل شمعة بعشر سنوات وضحك الجميع.

إلا أن سامر أمعن النظر بها كثيرا ولفت نظره حضورها و براءتها وعفويتها ومحبتها لأخوتها و محبتهم لها, وكان نصيبها منهم كثيرا فقد اعترفوا لها بالجميل حتى أولادهم يكنون لها من المحبة ما يغنيها عن التفكير بالزواج وإنجاب الأولاد .
سامر معروف بالصديق الوفي لزوج أختها كان من ضمن الحاضرين هو وأخته, لقد أعجب بها من اللحظة الأولى و خاصة عندما سألتها إحدى الفتيات الموجودات ما شعورك يا رشا و قد تجاوزت الأربعين؟

لم أفكر بهذا الأمر يوما, والآن فرحتي أنستني كل شيء و اشكر الإله بان لي أخوة وأحبة وهذا كل ما يعنيني , أجابت رشا
جواب مختصر و معبر هكذا قال لها سامر و بدآ يتشاركان الحديث و يبدو أنهما تشاركا في أشياء أخرى فهو يحب المطر و يحب مساعدة الآخرين و يحب الشعر لا بل أحيانا يكتبه, ورشا تحب رائحة الخبز الساخن وهو كذلك , والآن هو يحبها وهي تحبه.

حاولت أن تخفي حبها وتكذب على نفسها و تقول انه صديق فقط لماذا ؟ لأنها علمت بعد عدة لقاءات انه متزوج , و لكن على من تكذبين يا رشا؟ على نفسك أم عليه؟

رشا لم تكذب لكنها لم تعرف هذا الشعور الذي ينتابها حين تراه أو تسمع صوته؟ ولماذا يسيطر على وجدانها و لم تعد تحب أن ترى غيره, أحبت أهلها وعملها و أصدقائها و الأرض و البحر, ولكنها الآن تكابد شعور مختلف شعور لم تشعر به طيلة الأربعين عاما وخاصة عندما لمس يدها شعرت بتيار الحب يسري في شرايينها , و أيقنت رشا أن هذا هو الحب الذي يتحدثون عنه .

رشا التي تنظر إلى المرآة فقط حين تغسل وجهها, بدأت الآن تمعن النظر في وجهها و تدقق في تاريخ عمرها وأثاره على وجهها و روحها, رحل عمرها من بين يديها و هي تهتم بالآخرين . آن الأوان يا رشا أن تعيشي حياتك هكذا قال لها, فما كان منها إلا أن عّبرت له عن حبها الكبير له , ولكنها لم تستطع الاستمرار, وابتعدت لتدعه لزوجته ولأطفاله الثلاث

ألح في لقائها مرات و خاصة عندما علم بمرضها و ذهب لبيتها مسرعا حاملا رغيف خبز ساخن تلك الرائحة التي تحبها أكثر من عطور الدنيا كلها , أنست رشا ما كانت تفكر به و أنستها قرارها, أحبته كما لم تحب أحدا من قبل و أن الشعور الذي شعرت به عندما امسكها من يدها لم تعهده و أنها تتلاشى عندما ينظر بعينها, ورغم ذلك ابتعدت .

لكن عبثا فوجوده الآن بقربها أصبح حقيقة لم يسلم عليها بل احتضنها و شم رائحتها و قبل رأسها و عيناها و خدها وهو يهمس لها احبك كثيرا, و لا تسأليني كيف و متى, فأنا لا أعرف , أحبك مثل أم .. مثل وطن .. ولملم سنين عمرها بلحظة , واستسلمت لنسمات هبت في روحها فجأة بعد أربعون عاماً و لم تتفوه بكلمة مما كانت تفكر به وغابت عن الدنيا و لم تعد تعمل لكل العالمين حساباً .

تبادلا أحاديثاً أخرى و امضيا معا لثلاثة أيام من دمشق القديمة إلى الجديدة والى المراكز الثقافية لرؤية معرض رسم أو معرض للكتاب و في نهاية كل نهار تضيع حينها كل الأنوار التي تنذر بالتوقف, فقلبها عرف دقات غير دقاته المنتظمة وعزفا لحن الحب معا و غنياه معا .

و في النهاية بكته لوحدها, حيث كان صباح اليوم الرابع , بعد أن قدمت له فنجان القهوة جلست بقربه , ودون أن ينظر إليها قال:

لقد عشت معك ثلاثة أيام , كانت أيام جميلة
كانت أجمل أيام عمري.. أجابت رشا

وقف سامر و بكل قسوة قائلا: أنا مغادر الآن و أرجو أن لا تتصل بي
تحولت عينا رشا إلى زجاج و بصعوبة خرجت منها الكلمات تسأل: ماذا تقصد
رشا أنا متزوج و أحب زوجتي وأولادي, فأنا لا أستطيع أن أقلب التاريخ, وغادر

من منا يستطيع أن يقلب التاريخ؟ كيف لي أن أمحي تلك الثلاثة أيام من تاريخي, أسير في الطريق و أحاول نسيان كلماته و همساته و لمساته, عشت معه أيام لم أعشها من قبل, هل خدعني؟ لقد صدقت كل حرف من كلماته دخلت إلى مابين ضلوعي, لقد أحسست أنها تخرج من قلبه ألاّ يقولون أن ما يخرج من القلب يدخل إلى القلب.

هل كان يكذب؟ لم اشعر بكذبه وإلا لما حصل ما حصل, إذا أيمكن لرجل أن يحب امرأتين في آن واحد؟ لست أدري؟!
كرهت محبتي للأرض و للأم , و لا أستطيع أن أقلب التاريخ . فللماضي بداخلي آثار الصدأ وللتاريخ أرقام تفرض حضورها بقسوة , من منا ينسى هذا التاريخ 1948 ؟!

 

حاولت الهروب من ذكراه لكن عبثا, و لست أدري أن كنت أهرب من نفسي و من إحساسي بالذنب تجاه زوجته و أولاده .

علنّي أخطأت عندما حاولت أن أغب ماءه و اروي عطش سنيني,أحاول أن أنسف ذاكرتي كلها لكن كان حضوره دائماً و نصل الندم يذبحني من الوريد إلى الوريد.

كيف لي أن اكره اليوم الذي رأيته فيه؟ كيف لي أن أقلب التاريخ وأمحو ذلك اليوم؟ يوم مولدي ؟!
يا لسخريتك أيتها الأقدار دعينا نحب يوماً دون نكره بعضاً منه. دعينا نفرح يوماً دون أن نحزن بعضاً منه!
في يوم و بقرار, استحضرته بذاكرتي, و بدأت أتذكر كل لقاءاتي, و ما جرى بيننا من كلام و هواجس و أحلام و خلافات, وهكذا مرات و مرات و أتذكر إلى أن ذهب مني, وودعته إلى الأبد, وأودعت ذكراه تحت التاريخ.

وعادت إلىّ روحي التي ضاعت مني لأيام, لأشهر وعدت لحياتي , ولا أدري إن كان تحديا له , أو لأزيل آخر ما تبقى من ذكراه, ذهبت لبيت أختي لأحتفل بيوم مولدي الواحد والأربعون و بوجود عائلة أخي , و بدأت ذكرى العام السابق تتوالى و ذكرى سامر تحضر من قبل زوج أختي الذي أبدى استغرابه لسفر سامر المفاجئ خارج القطر.
لا تستغربوا .. لقد كان سامر يقضي مع فتاة أخرى.. في بلد آخر ..

نبذة عن الكاتب

مقالات ذات صله

الرد