من فضلك اختار القائمة العلويه من القوائم داخل لوحة التحكم

النيروز بين تجديد الحياة و تجدد الذوات بقلم الباحثة و الشاعرة و الناقدة: منى بعزاوي

12512576_152774995103466_565653624573043938_n

بقلم الباحثة و الشاعرة و الناقدة: منى بعزاوي

 
 
 
 

مقدمة:

تعيش الجمهوريّة الإسلامية الإيرانيّة، و بعض المناطق الأخرى على غرار جنوب شرق آسيا وآسيا الوسطى و الأكراد بدولة العراق و أذريبيجان و تزاكستان و أفغانستان و غيرها، هذه الأيام على وقع الأفراح و الترحاب و التجدد بين التاريخ والتحضر، وبين الفصول و الاشراق، ضمن ما يعرف برحلة الإنسان بين ربوع الطبيعة ولاسيما في أولى أيام الربيع، الذي ما انفك يراقص وجدان الشعب الإيراني و عواطفهم و عقائدهم وتراثهم الممتد في مختلف الحضارات، فتكون هذه الأيام حافلة بكل معاني الحياة من خلال الاحتفال بعيد النيروز أو النوروز، و الذي لا يزال راسخا في الذاكرة الشعبية و في الوجدان الإنساني منذ عصور قديمة إلى اليوم.

1-المرجعية التاريخية و الدينية لعيد النيروز:

تعود تسمية النيروز إلى “نو” بمعنى الجديد و”روز” بمعنى اليوم أو العهد الجديد، و هو عهد مميز، لاعتباره يعّبر عن لحظات استثنائية تنفتح على اكتمال دورة الشمس لاستقبال سنة جديدة، لذلك اتخذ عيدهم المقدس طابع التعالي و التجلي الروحي بين الأمّة الإيرانية وغيرها، و بين النفوس، فعبروا عنه بطقوس خاصّة ضمن فصل مزهر خاص و ضمن صيرورة زمانيّة خاصّة، فكان يوم 21 مارس هو اليوم المعبر عن بداية التفتح و الانفتاح والتجديد والتجدد والنيروز.

و في ظل هذا الاستقبال الاستثنائي لفصل الربيع، تتنوع من خلاله العادات و التقاليد  وتنتشر صدى الموسيقى و الفنون و تجديد التراث و العقائد، و كأنها مناسبة لاتحاد الإنسان وتواصله مع كل شيء جميل في عالم الطبيعة و الحياة و الوجود، لأنها لحظة تفتح الزهور و تفتح العمر و الأمل و لحظة انارة  القلوب و البصائر و الارشاد و الهداية إلى الحق و مثل كذلك و لحظة التغيير و التحويل الزمني أو الدوران الفلكي و النفسي و الروحي.

و من هذا المنطلق اصطبغ عيد النيروز بصبغة القداسة تاريخيا و دينيا و اجتماعيا، إذ يعبّر هذا العيد عن أهمية الرسالة الإسلاميّة الموجهة لكل من يعبد غير الله سبحانه، و هو عيد اكتسب أهميته منذ القديم وصولا إلى اليوم، فكأنه عيد يحاكي التمدد الإسلامي المشروع، و يحاكي الله سبحانه و كل الموحدين له. فهذا العيد مثّل رمزيّة و انطلاقة نحو التمدد في نشر الإسلام و محاربة الشرك بالله و بالرسل و الأولياء الصالحين. و هو رمز للاستقامة و الهداية و نشر الإسلام و دعوة صادقة إلى التوحيد بالله خالق كل شيء بما في ذلك النور و الطبيعة والإنسان و كل شيء حي.

إذ في هذا العيد تتوّحد الرسائل النبويّة و تتوحد الهويّة الإنسانيّة من أجل نشر المحبة بين الناس و إحياء قيم التسامح و التواصل، و المحافظة على الإخلاص للتاريخ و للعقيدة والتصالح مع الدين الإسلامي، دون تفرقة أو مذاهب أو غيرها، فترى كل شيء تقريبا يحث على نشر السلم و السلام، و بث البهجة في كل ذات إنسان، و تحرر من كل شر و ذنب وطغيان. و كأنه عيد تجدد الإنسانية وعيد تجديد الحياة.

2-رحلة النيروز بين الطبيعة:

ارتبط عيد النيروز بكل معاني و دلالات الحياة و التحرر و الانعتاق من كل أشكال التقوقع على الذات، إذ ارتبطت دلالاته بمعان عميقة تتجلى في الروح الباطنة، و التي تعيش عبر الانفتاح المتواصل مع التجدد، من ذلك انفتاح الذات على روح الطبيعة الخلابة و الربيع والأزهار و الألوان الزاهية، و لا يزال لهذا العيد وقعه الخاص على المجتمع الإيراني و غيره من المناطق. إذ تتجسد أهميته في ضرورة التواصل مع الآخر و الاتصال بالحياة التي دأبت في روح أولى زهرة في الأرض في فصل الربيع، و كأن الحياة تتجدد بتعاقب الفصول على بعضها البعض، فهي رحلة وداع لفصل الشتاء، و استقبال لفصل الزهور و الألوان المشعة على الطبيعة و على الحياة وعلى الروح والأمل. لاعتباره عيد معانقة الروض و الحياة و نشر مبادئ السعادة والعشق  والسرور في أحضان الهواء و الهوى و الألوان و الاخضرار، فهو عيد السفر بالذات نحو الآخر و نحو معانقة الأبعاد اللامتناهية.

وفي هذا اليوم يغادر الشعب الإيراني مثلا البيوت و المنازل المنغلقة و يتحرروا من ذلك الانغلاق في إطار البحث عن الحرية و السعادة المطلقة في رحاب الطبيعة الممتدة بين الجبال والسهول و بين الأرض و السماء و بين الأمل و الفرح و ضحكات الأطفال واستقبال الربيع بنسماته التي تختلج الذوات، فيكون التحرر و تنتج الحرية و تتجدد الحياة ويمتد الأفق بين ربوع تلك الزهور و اللهو و المرح و الضحك لأيام تدوم أكثر من عشرة أيام، و هي عادات أخذت من تاريخ الملوك و السلاطين منذ الحضارات المتعاقبة على الفرس، وصولا إلى الحضارة الساسانية اليوم.

هذا إضافة إلى أن عيد النيروز قد اتصل في أبعاده الوجدانية و العاطفية بدلالات الإشراق والاستشراف للنور الجلي، إذ كان في تاريخ عيد النيروز دلالة على استهلال الأرض واستقبالها لمطلع” الشمس و رياح اللواقح”.[1] و هي بوادر بعث الحياة و اشراق الروح للتجدد والاستمرار في الوجود، إذ تمثل إشراقة الشمس بعث النور في الأرض، و بعث الحياة في الإنسان واستقبال اليوم الجديد و المتجدد في كل سنة، فاليوم هو نور الشمس و التجلي المتعالي و الأفق المتعالي بالذات، و الجمال الرباني المتصل بخالق الوجود، و اشراقة الحياة للزهور و حياة للأرض وإنارة لطريق الحق، و تجدد للتواصل بين الشعوب, فكل هذه المعاني مستوحاة من عيد النيروز و من علاقة الإنسان بالزمن و المكان، و علاقته أيضا بالآخر داخل صيرورة مطلقة.

هذه الصيرورة تبعث روح التحرر في الذوات من خلال اتصالها بالأفق الآخر، وكأنه عيد اليوم الجديد، و اليوم المستقبلي الباعث للنشوة و اللذة بكل شيء جميل، فهو اتحاد الذات بالطبيعة اتحادا كليا لا يستقل أحدهما عن الآخر. ممّا يبعث الحركية داخل المجتمع الإيراني ويفتح أبواب التواصل بين الذوات، و بين الطبيعة و يكون هذا الاتحاد في أبهة الخالق الذي خلق الطبيعة و مدد جمالها في الروح و الجسد والفكر، بحيث يتناسون كل المشاكل والضغوطات، و ينتفي الماضي بكل ما فيه، فيكون ذاك التجلي المطلق و اللامتناهي في كل شيء.

3-الأبعاد الاجتماعية:

يعد عيد النيروز عيد التجدد في المجتمع الإيراني ،  و مختلف المناطق الأخرى، بعيدا عن كل مقتضيات الحياة الشكلية و المادية، حيث يستهل النيروز بتصفية القلوب و البصيرة وبانشراح الصدر و والتفاؤل لاستقبال زمن جديد، إذ تنفتح  الشعوب الإيرانية على بعضها البعض، بنشر المحبة و السلام بينهم، وبتخصيص احتفالات خاصة داخل البيوت و خارجها، فهو احتفال بتوديع الماضي المنتهي و استقبال حاضر متجدد و مستقبل مشرق بعيدا عن التقوقع في الذات و في المكان و في الزمان و في الذاكرة. و ربما في ذلك تعبير عن هوية متجذرة في العمق الروحي و في امتداده النفسي.

وفي هذا الامتداد، تمتد المظاهر الاجتماعية المتسعة في الفضاءات المفتوحة، فينفتح الشعب الإيراني على آداب الأكل و هي آداب المجالس الحضارية و الثقافية التي لطالما رافقت الثقافات و الحضارات المتعاقبة على الفرس، فتنصب السفرة الإيرانية في كل بيت وهي تحاكي التراث و التقاليد المتعارف عليها و التي لازمت الذاكرة لعصور طوال، و تكون هذه السفرة منفتحة هي الأخرى على سبع أكلات خاصة، وتكون خصوصيتها المتميزة منطلقة بحرف السين، و حقيقة قد يكون عدد سبعة  و حرف السين لهما رمزيتهما الخاصة عن الإيرانيين، و لعل ذلك يتجلى لنا من خلال رمزية هذه الأكلات أو الخضروات التي تدل على الحيوية والاستمرارية و التجدد في فضاء التحرر المطلق و على جمالية الطبيعة الفارسية. وكانت هذه السفرة تسمى في تاريخ الفرس بسفرة  “هفت سين” أو ” هفت چين”  بمعنى “السينات السبع”. و ضمن دلالات الحروف نقر بأن حرف السين في الفارسية يعتبر “الحرف الخامس عشر من الألفباء الفارسية.”[2]

و لا بد من الإشارة هنا إلى أن الاحتفالات بعيد النيروز تمتد لمدة نصف شهر أي خمسة عشر يوما، و لعل في ذلك دلالة على الاستمرارية و الانطلاق والانشراح بين الذات و الذوات و بين الذوات والصيرورة الزمنية، لاعتباره حرف استقبال ينقل الزمن المحدود إلى زمن واسع ومتسع، فمنه الاستواء والاستقامة والسوي و الانسان و التساوي و التسامي و السماء والشمس والسعادة و السفر و السلم و السلام. و هي أسماء دالة على الاتساع في الحياة وفي الوجود. و من هنا تنفتح دلالة هذه الأكلات على التجدد و السعادة النابضة بالأمل والروح والتجديد المستمر في المطلق.

هذه السفرة تتنوع بين “سبزة  (خضرة) وسيب (التفاح) و سمن (حلوى) و سماق و سير  (الثوم) وسنجد (عناب) وسنبل”. و يرافق هذه الأكلات المتنوعة و التي تقريبا كلها تعود إلى منبع الطبيعة الخلابة، دالة على النعمة الوفيرة و الصحة و البركة، و هذه الأكلات تقتبس دلالتها من ألوان الطبيعة الايرانية الممتدة على السهول و الجبال و الحقول و الملابس وغيرها. و أحيانا ترافقها الأسماك الحمراء الدالة على الرزق و النعمة، و من هنا يعبر الإيرانيون عن مدى اتصال الإنسان بالأرض و بالبحر و بالسماء، ومدى اتصالهم بأصل الوجود  وبخالقه. و لاسيما اتصالها بالعادات و التقاليد القبليّة في الذهنيّة الفارسيّة و التي تتوافق في رمزيتها مع عدد أيام الأسبوع و عدد الخطوط الفارسيّة المنقوشة على الكؤوس، هذا إضافة إلى أن العدد سبعة يمثل من طقوس التعازي بعد الوفاة، و يمثل أيضا عدد السماوات السبع التي خلقها الله سبحانه و تعالى، و يمكن القول إنها تتلاءم مع الذهنيّة العددية للكواكب الرئيسية في التصور الإيراني.

هذا و نرى حضورا متميزا للقرآن الكريم على تلك السفرة، للدلالة على هذه النعمة الربانية الخالدة، و للدلالة أيضا على قوة الإيمان و الاتحاد بالخالق. و هو ما من شأنه أن يقوي الروح و ينور القلوب بلذة الحياة و جمال الخلود و التعالي بالروح في إطلاقية الجمال الذي لا ينتهي. و تعالي بالإنسان نحو تحقيق انتصاراته الإنسانية ووحدته الوطنية، إذ يعبر عيد النيروز عن وحدة الهوية الإسلامية الإيرانية منذ تاريخ العصور القديمة إلى العصر الساساني اليوم، وتتجسد هذه الهوية من خلال التواصل مع الآخر بمختلف تجلياته ومن خلال الاتصال بالحضارة و اللغة و الكتاب المقدس.

4-الأبعاد الدينية و الروحية

إن التجلي الديني، يعكس امتدادا للتجلي الروحاني من خلال الاحتفال بعيد النيروز، إذ يتجلى هذا الحضور بالغسل و التطيب و الصوم و الصلاة و قيل في هذا الإطار عن ” محمد بن الحسن في المصباح عن المعلى بن خنيس، عن مولانا الصادق ( عليه السلام) في يوم النيروز قال: إذا كان يوم النيروز فاغتسل و البس أنظف ثيابك، و تطيب بأطيب طيبك، و تكون ذلك اليوم صائما، فإذا صليت النوافل و الظهر و العصر فصل بعد ذلك اربع ركعات، تقرأ في أول كل ركعة فاتحة الكتاب، و عشر مرات ( إنا أنزلناه في ليلة القدر)، و في الثانية فاتحة الكتاب و عشر مرات ( قل يا أيها الكافرون)، و في الثالثة فاتحة الكتاب و عشر مرات ( قل هو الله أحد) و في الرابعة فاتحة الكتاب و عشر مرات (المعوذتين)، و تسجد بعد فراغك من الركعات سجدة الشكر، و تدعو فيها يغفر لك ذنوب خمسين سنة”[3].

و من هنا تنفتح الذات على الحضرة الإلهية من خلال القرآن الكريم، فيكون السجود والدعاء، و يكون الخضوع لله سبحانه و تعالى، و هي علاقة روحانية تتجدد بين العابد والمعبود، و هو ما يضفي طابع القداسة على عيد النيروز و يجعله يوما طاهرا و مخصصا للعبادة و التقوى و التعبد و الغفران و التصالح مع الله لسنوات طويلة و طلب المغفرة والتجدد في الحياة و الفكر و الروح.

و قد خصص لذلك أدعية خاصة في هذا اليوم المتميز فكرا و روحا، فكانت الآناشيد والتعاليل والمناجاة المقدسة، من ذلك القول:”يا مقلب القلوب والأبصار يا مدبر الليل والنهار يا محول الحول والأحوال حول حالنا إلى أحسن الحال”.  و هو ما يعبّر عن عملية التصالح مع الذات ومن ثمة التصالح مع الخالق داخل إطلاقية تامة، قد يحددها الزمان والمكان، و لكنها منفتحة على الشعب الإيراني دون استثناء، فهو عيد الهوية الذاتية و الروحية بامتياز، يتجاوز حدود القوانين المتعاهد عليها، و يتجاوز أبهة الحجب بين الذات و مكانها.

هذا التجلي الروحي ينفتح على بصيرة الإنسان، فيعمق رؤاه الاستبصارية و الاستشرافية للأشياء، فتتجدد معاني الحياة و دلالات الوجود بين الحياة و الموت، و بين الخالق والمخلوق، إذ يتوجه فيه العابد إلى خالقه في هذا اليوم بالدعاء و الصلاة من أجل تحقيق  “الفرج”[4] على حد تعبيرهم.

 و تعود مرجعية ذلك إلى أن” نبيا من أنبياء بني إسرائيل سأل ربه أن يحيي القوم الذين خرجوا من ديارهم و هم آلوف حذر الموت فأماتهم الله فأوحى الله إليه أن صب عليهم الماء في مضاجعهم، فصب عليهم الماء في هذا اليوم ( أي يوم النيروز) فعاشوا، وهم ثلاثون ألفا… “[5] و طبعا للماء دلالة على الحياة و التجدد، و بالتالي تجديد الحياة و تجديد العهد و العهود، وتجدد لآداب التواصل و الاتصال بالآخر دينيا و روحيا و فكريا و اجتماعيا و اقتصاديا، وتجدد للذات و علاقتها بالذوات في المجتمع، وفي ذلك تجديد للتاريخ و الحضارات المتعاقبة على بلاد فارس.

 

نبذة عن الكاتب

مقالات ذات صله

الرد