من فضلك اختار القائمة العلويه من القوائم داخل لوحة التحكم

النموذج البرازيلى في التنمية المستدامة

د.احمد لطفي شاهين

شاع مصطلح التنمية المستدامة في السنوات الاخيرة وهو موضوع خطير ومهم وجميل ارجو ان نهتم به خاصة في الوطن العربي والعالم الاسلامي لتحقيق الاستقلال الاقتصادي والاكتفاء الذاتي وحفظ حقوق الاجيال القادمة وساذكر لكم قصة البرازيل التي مرت فى فترة الثمانينات بأزمة اقتصادية خانقة … فذهبت للاقتراض من صندوق اللعنة .. صندوق النقد الدولى معتقدة انه الحل لأزمتها الاقتصادية … واقترضت قرض ربوي وطبقت طبعاً حزمة الشروط المجحفة وبدلا من ان تنهض تدهورت اكثر، وتم تسريح ملايين العمال وخفض أجور باقي العاملين، والغاء الدعم الحكومي ..!!

وانهار الاقتصاد البرازيلي تماما ووصل الأمر إلى تدخل دول أخرى في السياسات الداخلية للبرازيل، وفرض البنك الدولي على البرازيل أن تضيف إلى دستورها مجموعة من المواد تسببت في اشتعال الأوضاع السياسية الداخلية … ورغم استجابة البرازيل لكل الشروط، تفاقمت الأزمة أكثر فأكثر، وأصبح 1% فقط من البرازيليين يحصلون على نصف الدخل القومي ..!! وهبط ملايين المواطنين تحت خط الفقر، الأمر الذي دفع قادة البرازيل إلى الاقتراض من الصندوق الملعون مرة أخرى بواقع 5 مليارات دولار، معتقدين إنه الطريق للخروج من الأزمة..!!

فتدهورت الامور أكثر، وأصبحت البرازيل الدولة الأكثر فسادا وطردا للسكان الذين اصبحوا مهاجرين، واصبحت الدولة الأكبر فى معدل الجريمة وتعاطي المخدرات والاكثر مديونية فى العالم .. وتضاعفت الديون العامة 9 مرات خلال 12 سنة” حتى هدد صندوق النقد بإعلان إفلاس البرازيل إذا لم تسدد فوائد القروض، ورفض إقراضها أى مبلغ فى نهاية 2002 … وانهارت العملة البرازيلية … ووصل الدولار الى 11 الف كروزيرو” … كانت البرازيل تحتضر بمعنى الكلمة …حتى جاء عام 2003 … وانتخب البرازيليين رئيسهم “لولا دا سيلفا” … الذى ولد فقيرا، وعانى بنفسه من الجوع، وظلم الاعتقال ” كان يعمل ماسح أحذية” ..!!

وعندما امسك بالحكم الكل خاف منه … فرجال الأعمال قالوا هذا سوف يأخد أموالنا ويؤممننا … والفقراء قالوا هذا سوف يسرق كي يعوض الحرمان … لكنه لم يفعل ذلك … وإنما .. قال كلمته الشهيرة: “التقشف ليس أن يفقر الجميع بل هو أن تستغنى الدولة عن كثير من الرفاهيات لدعم الفقراء” ..!!

وقال كلمة خطيرة:”لم ينجح صندوق النقد إلا فى تدمير البلدان” … ثم وضع خطة استراتيجية اعتمد فيها على أهل بلده … ووضع بند في الموازنة العامة للدولة أسماه: “الإعانات الاجتماعية المباشرة” وقيمته 0.5% من الناتج القومي الإجمالي للدولة … بحيث يتم صرفه بصورة رواتب مالية مباشرة للأسر الفقيرة … بمعنى انه اصبح هناك دعم نقدي بدلا من الدعم العيني … وهذا الدعم كان يقدم الى 11 مليون أسرة تشمل 64 مليون مواطن برازيلى …!! هذا الدعم كان 735 دولاراً… و السؤال .. من أين والبرازيل كانت مفلسة ؟!! الجواب المهم انه رفع نسبة الضرائب على الكل … ما عدا المدعومين ببرنامج الإعانات … اي انه رفع الضرائب على رجال الأعمال والفئات الغنية من الشعب …

والغريب انه وافق رجال الأعمال على ذلك ببساطة و كانوا سعداء بذلك لأنه منحهم في المقابل “تسهيلات” كبيرة جدا في الاستثمار وآلية تشغيل وتسيير أعمالهم … و”منح” الاراضي مجانا للمستثمرين البرازيليين وقدم تسهيلات في التراخيص وساعدهم فى فتح أسواق جديدة، واعلن انه سيمنح الجنسية البرازيلية بشروط ميسرة للمستثمرين بعد دراسة جدوى مشاريعهم بسقف مالي كبير وبما يخدم الشباب البرازيلي ويخفف البطالة كل ذلك ادى إلى ارتفاع دخل الفقراء وزيادة عملية شراء منتجات رجال الاعمال والمستثمرين فكان حجم مبيعاتهم مضاعفا والربح اكبر … لذلك لم يشعر المستثمرين ورجال الاعمال انها “جباية” … بل كانوا يدفعون ضرائب مقابل “تسهيلات” أصبحوا يكسبون اكثر منها ..!!

وانتشرت الاخبار بين اصحاب رؤوس الاموال وبعد 3 سنوات فقط عاد 2 مليون مهاجر برازيلي وجاء معهم 1.5 مليون أجنبي للاستثمار والحياة في البرازيل خلال اربعة سنوات فقط (مدة رئاسية واحدة) سدد كل مديونية صندوق النقد (الملعون) ..!!؟؟ بل أن الصندوق “اقترض” فيما بعد من البرازيل 14 مليار دولار اثناء الأزمة العالمية فى 2008، أى بعد 5 سنين فقط من حكم “لولا دا سيلفا” ..!!

وهو نفس الصندوق الذي كان يريد أن يشهر “إفلاس” البرازيل فى 2002، ورفض إقراضها لتسدد فوائد القروض ..!! كل ذلك كان بفضل تركيز الزعيم “لولا دا سيلفا” على 4 أمور: التعليم اولا ثم الصناعة … ثم التعدين … واخيرا الزراعة … وهكذا أصبحت البرازيل تصدر اكثر مما تستورد وتصنع كل شيء حتى الطائرات (اسطول طائرات “الامبريار” برازيلية الصنع .. بأيدي وعقول برازيلية ) … بعد انتهاء مدة ولاية حكم الزعيم “لولا ديسلفا” فى 2011 (بعد 8 سنوات) … وبعد كل هذه الإنجازات الحقيقية الرهيبة … طلب منه الشعب أن يستمر في الحكم وأن يعدل الدستور … لكنه رفض بشدة وقال كلمته الشهيرة: “البرازيل ستنجب مليون “لولا ديسلفا” ..ولكن البرازيل تمتلك دستورا واحدا فقط وليس من حقي تغيير الدستور” و ترك الحكم بكل شجاعة وشرف ..!!

وبكى عليه الشعب وكأنه مات… لكنه كان قد رسم خريطة للتنمية المستدامة والنهضة والتطور يسير عليها كل من يأتي خلفه بكل نزاهة وموضوعية وبعد اعتزاله تفرغ للتأليف وعمل كتابا اسمه : “الجوع صفر ” يشرح فيه امور اقتصادية وتنموية واجتماعية قد تكون بديهية لكن لا احد يعمل بها او يفكر في تطبيقها وبعده دشنت البرازيل أول غواصة نووية علما ان 5 دول فقط فى العالم تصنع غواصات نووية وهي : امريكا – روسيا – الصين – بريطانيا – فرنسا) …

كانت أول غواصة بالتعاون مع فرنسا … ولكنها ستدشن الغواصة الثانية فى العام الحالي 2020 والثالثة فى 2022 بصناعة برازيلية خالصة… أيدي وعقول برازيلية …!! ختاما.. اقول ان النهوض من التخلف ليس مستحيلا … إنها “إرادة” و”إدارة” و ” قيادة”… ويمكن ان تحدث النهضة فى سنوات “معدودة” … والطريقة “معروفة” ومحددة وبسيطة : جودة التعليم .. الصناعة … الزراعة … الاهتمام بالفئات الفقيرة المنتجة خاصة الشباب …

واما الجيش والتسليح فهو امر ممتاز ومطلوب لكن يجب ان يكون هناك اهتمام متوازي معه في مجالات التنمية البشرية الذاتية والمستدامة وهذا ما طبقته البرازيل حديثا وألمانيا واليابان فى الستينات بعد هزيمة فادحة في الحرب العالمية الثانية … وهذا ما فعلته دول شرق أسيا فى الثمانينيات … فنهضت كوريا والصين وهذا ما عملته الهند فى التسعينيات … وهذا ما عملته تركيا وماليزيا … وهذا ما تعمله الآن اثيوبيا ورواندا منذ سنوات قريبة…!! فمتى نفكر نحن في النهوض؟ ومتى نتخلص من التبعية الشاملة.. لاوروبا وروسيا والصين؟ ارجو ان نتحرر فعلا من عقلية التابع المستهلك ونتحول الى عقلية المستقل المُنتج

نبذة عن الكاتب

مقالات ذات صله