من فضلك اختار القائمة العلويه من القوائم داخل لوحة التحكم

فرصة ثانية

فرصة ثانية!!!..

القاصة: صوفيا الهدار.

تمطى فخامة الزعيم في فراشه المخملي، وتثاءب بصوت مسموع، فرك عينيه، ثم فتحهما قليلا، خيل إليه أنه يرى شخصا غريبا في زاوية الغرفة يتأمله من بعيد، فتح عينيه على وسعهما، انتفض من فراشه:
– من أنت؟ … قالها بمزيج من الخوف والغضب.
-عزرائيل… رد الضيف غير المنتظر. ثم تقدم نحوه بخطوات ثابتة، ووجه صارم، تحيطه هالة من نور.
لم يكن الضيف يشبه البشر وإن كان قد تمثل بهيئتهم. تسارعت ضربات قلب الزعيم، وتشبث بغطائه المخملي، ضمه إلى صدره، وعاد يسأل وعيناه تشي مخاوفه :
– من أنت؟
– عزرائيل، ألم تسمع؟
ارتجفت يد فخامته وهي تحاول الوصول إلى زر الخدمة الذي على يمينه، ولكن قطعت طريقها يد الضيف الغريب وأمسكتها بقوة لا مثيل لها.
اختنق صوت فخامته وهو يحاول الصراخ واستدعاء النجدة.
لا فائدة ترجى من استدعاء أي أحد أو طلب النجدة، لقد قضي الأمر.
أحاطت يد عزرائيل بعنق فخامة الزعيم وراحت تخنقها، تخبط فخامته مثل سمكة خارجة من البحر، وحاول أن يفك القبضة القوية التي تحيط بعنقه ولكن دون جدوى، حاول أن يقول شيئا، وبدافع الفضول أفلته ملك الموت ليسمع كلماته الأخيرة، علها تكون مثل كلمات فرعون فيخلدها التاريخ لتكون عبرة لمن لا يعتبر.
أخذ الزعيم يلهث، محاولا استعادة أنفاسه.
-ماذا تريد أن تقول؟… سأل عزرائيل.
-لا أريد أن أموت… أرجوك دعني أعيش، توسل فخامته.
-أمثالك يستحقون الموت منذ زمن بعيد، لكن لكل أجل كتاب، رد ملك الموت.
أخذ فخامته يتوسل:
اعطني فرصة أخرى للحياة، فأنا كما تعرف الزعيم وهذا البلد يحتاجني.
قهقه عزرائيل وضحك ملء شدقيه.
أدرك فخامته سخرية الضيف، ولكنه استرسل: نعم، هذا البلد في حاجة إلي، وهناك ملايين لو تتسنى لهم الفرصة لافتدوني بحياتهم، يمكنك قبض أرواح من تشاء منهم، اسألهم بنفسك.
ضحك عزرائيل مجددا، وقال: تقصد المنافقين أو ما تسمونهم هنا بالمطبلين.
انتاب فخامته الشك في صدق أتباعه، وتوقع خذلانهم، فخطر بباله المهمشون والضعفاء والمشردون، فاقترح أن تُقبض  أرواحهم فداء له، وقدم عرضا بملايين البشر.
تغيرت سحنة عزرائيل وأغضبه هذا العرض، أو  على الأصح هذه الرشوة فعاد وأطبق كلتا يديه هذه المرة على خناق فخامة الزعيم.
انتفض مجددا وبقوة أكثر هذه المرة، فقد شعر فعلا أن روحه تكاد تغادر جسده، وحاول مجددا الكلام.
أفلته عزرائيل مرة أخرى، كان يرغب في معرفة إلى أي مدى سيستمر هذا الإنسان في غيّه.
وعندما استعاد انفاسه ووعيه، أدرك أن فكرة المقايضة لن تجدي، ولكن لا يزال يرغب في المساومة، فقال بمكر:
– اعطني فرصة أخرى للإصلاح.
– لقد لبثت في حكمك سنينا ولم نرَ منك إلا الفساد.
– تُبت، تُبت يا سيدي.. راح يتوسل من جديد.
– قد قضي الأمر، قال عزرائيل بحزم.
أدرك فخامته أنها النهاية لا محالة، فسأل ، إلى أين سأُرسل بعدها؟
ابتسم عزرائيل ابتسامة ساخرة: إلى جهنم وبئس المصير.
ارتعدت أوصال فخامة الزعيم، وحاول أن يتذكر حسناته فلم يجد أي منها، ارتجف وهو يدرك هذه الحقيقة، فقرر  التشبث بطلب فرصة أخرى عله يغير بها نهايته المحتومة.
اعطني فرصة أخرى، لعلي أصلح فيها ما أفسدته، ليس لأجلي فقط، ولكن لأجل هذا الشعب المغلوب على أمره.
نظر إليه عزرائيل نظرة اشمئزاز، قائلا:
-ما أوقحك، وأنت تعترف بما فعلته بشعبك، الآن تذكرت أن لك شعبا تُسأل عنه.
-سامحني..فليسامحني الله، اعطني فرصة فقط أصحح بها ما فعلته، وأعدك أن أغير كل شيء، لن يبقى في هذا البلد جائعا ولا مظلوما ولا…
ولكنه لمح نظرة عدم التصديق في عيني ملك الموت.
فعاد يقول:
– أرجوك أتوسل إليك.
-محال، قال عزرائيل.
-اعطني، فرصة ولتكن عاما فقط، حتى أصحح أخطائي ثم اقبض روحي بعدها.
– يالك من طماع، رد عزرائيل.
-إذن شهر، شهر واحد فقط.
– أليس بلدك هذا ديموقراطيا، وسينتخب الشعب من يشاء من بعدك؟!
– أية ديموقراطية، وأي بطيخ!  هل تصدق هذا الكلام؟!
ضحك ملك الموت ساخرا  وقال:
-قبحكم الله.
-أرجوك يا سيدي، أرجوك، قالها وهو يرتجف خوفا.
تأمله عزرائيل بنظرات حادة، ثم أشاح بوجهه، وسار مبتعدا باتجاه مرآة  معلقة على أحد جدران الغرفة، وقف يتأمل صورته، وراح يحدث نفسه: بما تفكر يا عزرائيل؟ منذ متى وأنت تتوسط للمجرمين؟ هل هو الفضول ما يدفعك لهذا؟ أم رغبة حقيقية في إنقاذ شعب مظلوم؟
ثم نظر للزعيم، وقال له :
لقد غركم بالله الغرور.
نهض الزعيم من فراشه وركض نحو عزرائيل يقبل قدميه، ويتوسل إليه.
نظر إليه عزرائيل بازدراء، وقال سأستأذن الله في هذا الأمر، ليس لأجلك، ولكن لأجل شعبك المظلوم، فربما تصدق نواياك.
قبّل قدميّ المَلَك بفرح هذه المرة وقلبه يحدوه الأمل، وراح يشكره عشرات المرات.
الأمر بيد الله، ولا أملك إلا أن أطيع وأنفذ، قالها عزرائيل.
وفي غمضة عين ذهب وعاد وقد قبلت وساطته من رب العالمين، ولكن  التأجيل سيكون لمدة أسبوع واحد فقط، قال عزرائيل.
كان فخامته لا يزال عند قدمي ملك الموت، لم يصدق ما سمعته أذنيه، وأخذ يقبل الأقدام مجددا، ولكن ملك الموت  اختفى الآن نهائيا وفي غمضة عين.
ظل فخامته راكعا لبرهة، لا زال جسده يرتعد، وقلبه ينبض بسرعة، يحاول أن يستوعب ما حصل، هل كان كابوسا، أو أنه حقيقة لا شك فيها، حاول استعادة وعيه، تحسس جسده، انتبه أنه كان قد بلل ثيابه الحريرية دون أن يشعر. انتابه شعور بالخِزي والخوف معا، استدرك أن لا وقت لديه، هب واقفا، استدعى زوجته، قص عليها ما حدث، لم تصدقه وظنته مريضا يهذي، أكد لها صدق ما حدث، ولاحظت هي ثيابه المبللة وجزعه المفرط، فأشفقت عليه ظناً منها أن أصابه الجنون، حاولت تهدئته، ثم مسايرته فيما يقول.
-والآن ما الذي تنوي فعله؟ قالت زوجته.
-سأصلح كل ما أفسدته في هذا البلد، وسأعيد كل ما أخذته من مال حرام إلى خزينة الدولة، وأولها أملاكي وأملاكك.
حدجته زوجته بنظرة ساخطة، قائلة: لقد جننت فعلا.
توسل إليها أن تصدقه وتساعده، لكنها انتفضت مهددةً إياه إذا مس فلسا واحدا من أملاكها، أو شبرا من عقاراتها.
-ولكن كل ما تملكين هو من عطائي أنا! رد فخامته.
-فلتذهب للجحيم، ولكن إياك أن تقترب من ثروتي، صرخت الزوجة مغادرة الغرفة.
كانت كلماتها بمثابة صفعة له، أخذ يشتمها بأقذر الكلمات ويذكرها بماضيها وما كانت عليه.
صفعت الباب بقوة وهي تغادر، كانت تسب وتشتم بصوت يكاد يسمعه جميع من في القصر.
أخذ يذهب ويجيء في الغرفة في توتر شديد،  ثم أخذ هاتفه واستدعى أولاده.
قص عليهم ما قاله لوالدتهم، نظروا إليه بدهشة من لا يكاد يصدق ما يسمع، كيف يطلب منهم التخلي عن ملياراتهم ، وعن عقارات لهم في كل بقاع العالم، كيف يتنازلون عن شركات الفساد التي يديرونها في البلد، عن مناصبهم، عن تجارتهم، عن استثماراتهم غير المشروعة.
يبدو أنه قد أصابه الخرف، ويجب عدم السماح له بالقيام بأي تصرف ليس بالحسبان… هكذا تهامس الأبناء.
انتظر فخامته دعمهم، ولكن لم يختلف ردهم عن رد والدتهم.
شعر بالدوار فطردهم من غرفته، أدرك أخيرا أنه لم ينجب بشرا وإنما وحوش تنهش كل من يقف في طريقها.
غيّر ملابسه وتوجه لمكتبه، طلب نائبه، أفضى إليه رغبته في اتخاذ قرارات سياسية واقتصادية وإدارية جذرية، استفهم النائب عن السبب، واستفسر عن نوع التغييرات، فأخبره فخامته أنه يريد تصحيح وضع البلد واقتلاع الفساد، في البداية ظن النائب أن كلام فخامته مجرد كلمات رنانة لا تعني شيئا، ولكنه التمس جدية الرجل، فساوره الخوف على مستقبله الشخصي، استفسر أكثر، وكانت الإجابات تعني بالنسبة له أن الزعيم قد جن رسميا، أبدى معارضته، وغضبه، ولكن فخامته استدعى مدير مكتبه وأمره بالتحضير لاجتماع طارئ مع رجال دولته .
تحدث فخامته في الاجتماع عن قراراته الجديدة، ولكنه فوجئ بمعارضة الجميع، ووقوفهم جميعا ضده، بل وتهديدهم له إن لم يتراجع، لاحظ تآمرهم جميعا مع ابنائه ونائبه، صرخ وضرب الطاولة، ولكن لم يكترث له أحد، وإنما أمروه بملازمة قصره حتى يتلقى العلاج المناسب لحالته.
مرت ثلاثة أيام والأطباء يتناوبون عليه، بالإضافة إلى جلسات مع المختصين النفسيين.
بدأ لونه يصفر، وجسمه ينحل، جافاه النوم وشهيته للطعام معدومة، يعد الساعات وينتظر الموت.
وفي خضم تفكيره المشتت اهتدى لفكرة التواصل مع المعارضه، وتمكن أخيرا من التواصل معهم بسرية.
كان عرضه  بالتخلي عن السلطة مفاجأة سارة لمعارضيه، ولكن الشروط التي أملاها لتسليم الحكم للشعب لم ترق لهم، استمرت المفاوضات طويلا، كشفت المعارضة خلالها عن رغبتها في تولي السلطة، وليذهب الشعب للجحيم.
لم يفاجئه طموح المعارضة هذا، فقد كان في يوم من الأيام معارضا، وأدرك أنه إنما يتمسك بقشة.
مر يومان آخران أخذا الكثير من صحته، تملكه اليأس وقتله التفكير في الموت. أشفق خادمه عليه وحاول التخفيف عنه، حينها خطرت بباله خطة، طلب من خادمه أن يوفر له وسيلة للهرب من القصر، فقد قرر الخروج ومخاطبة الشعب بنفسه وتحريضه على الثورة.
نجح في اليوم التالي من مغادرة القصر متنكرا، استنشق هواء الحرية، فبُث الأمل في قلبه من جديد.
مشى بين الناس دون أن يتعرف عليه أحد، تأمل شعبه، فوجد منهم المخدرين، حاول اقناعهم بالثورة على الظلم، ولكنهم كانوا في عالم آخر قانعين بنعيم الوهم الذي توفره لهم المخدرات والتي يدير عملية ترويجها أحد ابنائه، وبعلمه هو.
خاطب المسلحين الذين يتجولون في شوارع المدن، حاول إشعالهم وحثهم على استغلال اسلحتهم في الدفاع عن حقوق الشعب، لكنه أدرك أنما هذه الأسلحة للتقاتل فيما بينهم، وممارسة العربدة التي يدعمها حزبه.
فكر بالمتعلمين والمثقفين، فلم يجد في هذا البلد غير الأميين الذين عمد بسياسته لتجهيلهم، أما المثقفين فلم يجد فيهم الشجاعة، فهم يخشون أن ينالهم ما نال سابقيهم من اغتيالات أو حبس وتعذيب  في السجون.
راقب الفقراء وهم يقفون على أبواب الأفران يشتهون رغيف خبز ساخن، أما السمك والفواكه والخضروات فيتأملونها فقط مثل تحف في معرض، صرخ بهم لماذا تسكتون عن كل هذا، لماذا لا تثورون؟
فأخبروه أن ثوراتهم قد سرقت منهم، وأن الزعيم نفسه صعد على اكتافهم إلى الحكم، ليسومهم سوء العذاب بعدها.
كانت الخيبات تتوالى عليه من هنا وهناك، فأخذ يصرخ بالناس، أنا زعيمكم، وأدعوكم للثورة ضد الظلم، سأقف معكم.
تجمهر حوله الناس، ولكن لم يصدقه أحد، رغم شبهه الكبير بزعيمهم لكنه بالنسبة لهم مجرد مجنون، مصيره الحبس أو مستشفى الأمراض العقلية لا محالة.
وكما توقعوا فقد كان رجال الأمن يطوقونه بأسرع مما تتخيل، أخذوه للسجن، حققوا معه، صفعوه على وجهه، حاولوا انتزاع اعتراف منه عمن يقف وراءه، لزعزعة الأمن. حاول أن يشرح لهم أنه زعيمهم، ولكن الصفعات كانت تتزايد كلما أصر على ادعائه.
لحسن حظه أن أبناءه ونائبه علموا بالحادثة وأسرعوا في إطلاق سراحه ومعاقبة المتورطين في إهانته.
أخذوه للمشفى، أقاموا عليه حراسة مشددة، بقي هناك يعد ساعاته الأخيرة في استسلام ويأس.
مرت الساعات، وانقضى الأسبوع كاملا ولم يظهر ملك الموت، استغرب فخامته من هذا التخلف عن الموعد، مر بعده يوم ويومان وثلاثة، ولا أثر لملك الموت.
بدأ الزعيم نفسه يشك في حقيقة ما حدث له، وشيئا فشيئا لم يعد يصدق قصته.
مرت أيام أخرى تعافى فيها تماما مما ظنه كابوسا سيطر عليه، ووهما لا يمت للحقيقة بصلة، بدأ يسخر من نفسه كيف صدق مثل هذا الشيء، عادت له حيويته، وعاد الدم لوجنتيه، واستعاد شخصيته السابقة، سخر من نفسه، كيف سولت له على التخلي عن الحكم وتبديد ثروته، وضحك كثيرا عندما تذكر أنه فكر في تسليم الحكم لمعارضيه، وتحسس خده عندما تذكر مغامرته في شوارع المدينة وتجربته المهينة في السجن.
خرج من المشفى، واستعاد علاقته بزوجته وأولاده، شكرهم على ثباتهم على موقفهم رغم قساوته.
تحرر من كل ما ينغص عليه حياته، وقرر الاحتفال هذه الليلة بشفائه، شاركه الاحتفال نائبه ورجال دولته، شرب ليلتها نخب عودته للحياة.
انقضت سهرته الجميلة، وذهب لفراشه المخملي وألقى بجسده عليه، وغط في نوم عميق.
عندما أفاق، تمطى في فراشه، تثاءب بصوت مسموع، فرك عينيه، فتحهما قليلا، تسمرت نظراته على شبح شخص يقف في زاوية الغرفة يتأمله، تعرف عليه في هذه المرة مباشرة، وبكل سهولة …

نبذة عن الكاتب

مقالات ذات صله

الرد