من فضلك اختار القائمة العلويه من القوائم داخل لوحة التحكم

الفقيد التربوي الأستاذ ناجي أحمد محسن…أنموذج للقائد الإنساني المُلهم!!!..

بقلم: وليد ناصر الماس.

عند محاولتي للكتابة عن فقيد التربية والتعليم القامة الوطنية السامقة الأستاذ ناجي أحمد محسن رحمه الله تعالى، وجدت نفسي عاجزا عن الكتابة، فلم أجد في قواميس اللغة ومعاجمها من الكلمات ما يجعلني مطمئنا في تعبيري منصفا في وصفي، وليس في وسع ذاكرتي المترهلة وأفكاري التائهة من هول الصدمة، أي قدرة على اختيار المناسب وانتقاء الملائم من الجُمل والتوصيفات.

ورغم ذلك فقد ألفيت نفسي مجبرا في الكتابة عن ذلك الطود الشامخ كبرياء وعزة ووطنية، والإشارة المختصرة للبعض من جوانب حياته العملية المشرقة وإنجازاته المشرفة، كأقل واجب إنساني وإخلاقي يمليه ضميري.

التطرق للمحطات المضيئة في حياة الفقيد الأستاذ ناجي أحمد محسن رحمه الله، تجعلك في حيرة من أمرك، فلا تدري من أي منها تبدأ ؟. وكيف تبدأ؟. وكيف لك أن توفي في إيجاز كهذا؟..
هواجس كهذه تثير في أعماقك شعورا قويا وجامحا بافتقادك لأدنى قدرة تمكنك من الكتابة عن الراحل والوفاء له ببعض مما يستحق.

لقد تفردت شخصية الفقيد الأستاذ ناجي أحمد محسن رحمه الله تعالى بصفات نادرة، وقيم إنسانية عظيمة، وإخلاق عالية قلما تجتمع في إنسان، فقد اتسم بالصدق والأمانه في الأقوال والأفعال، كما حرص في حياته على قيم التعاون والتكافل والتآزر حاثا عليها، وتحلى بمشاعر إنسانية رقيقة وصادقة نفتقرها لدى الكثير ممن حولنا، كما اتصفت شخصيته رحمه الله تعالى بروح التسامح والتعاون والأخوية، فلا نراه إلا مسارعا في تقديم أعمال البر والخير، مساهما في التخفيف من معانات الفقراء والمساكين وآلام المرضى والمعاقين، دالا على المحتاجين.

لقد كانت سنوات عمر القائد التربوي الكبير الأستاذ ناجي أحمد محسن، مفعمة بالحيوية والنشاط والجد والاجتهاد، عامرة بالمكاسب والإنجازات، مليئة بالتحديات والمغامرات المحسوبة.
كما كان رحمه الله تعالى أنموذجا في التفاني والإخلاص واتقانه للمهام والواجبات، وقدم بذلك أروع صورة حية بشهادة الجميع.

فقد كرس أقصى طاقاته وجهوده في عمله التربوي الذي تولاه في فترة زمنية مبكرة من عمره الزاخر بالعطاء، وأبدع في أداءه بشكل منقطع النظير، وحقق في ذلك المضمار نجاحا يستحق التوقف والالتفات.
فلقد شهدت السنوات المجيدة من عهد قيادته الرشيدة للعمل التربوي في مديرية حالمين نهضة تربوية وتعليمية فاقت جميع التوقعات، رغم تزامنها مع مرحلة حرجة من عمر دولة الجنوب الفتية، وهي تلك المرحلة التي تلت الاستقلال الوطني المجيد للبلد بسنوات قلائل، فقد كانت البنية التحتية للبلد يومها شبه منعدمة، كما عانت العملية التعليمية وقتها من شحة في الوسائل والمقدرات والمخصصات الضرورية للعمل، يضاف لذلك ندرة في العناصر البشرية العاملة، علاوة على افتقار أكثرها للتأهيل العلمي المطلوب.
وأمام واقع تعليمي معقد يفتقد لأدنى مقومات البقاء والصمود، فقد تولى رحمه الله دفة قيادة العمل التربوي بكل ثقة واقتدار، غير مكترث للصعوبات التي تموج من حوله، محدقة بقيادته تلك من كل حدب وصوب، فطموحاته العريضة، واعتداده بقدراته، وقناعاته المطلقة بإمكانية تحقيق ذلك الهدف النبيل، ذللت في ذلك السبيل جميع العوائق، ومهدت الطريق حتى بات سالكا ومتيسرا.

لقد وضع رحمه الله تعالى على كاهله مسئولية النهوض بالعملية التعليمية والارتقاء بها إلى مستويات عليا، وفي سبيل هدفه المجيد كرس أقاصي جهوده، وتحمل تبعات ومشاق ذلك، وضحى لأجله بأثمن أوقاته وسعادته وكل ما يمتلك، فكان له ما سعى.
فمن بين ركام الجهل والفقر والتخلف، وتفشي الثقافة القبلية المتزمتة، والتعصب السياسي الأعمى، أخرج نظاما تعليميا متميزا، أضحى منافسا في جودته للتعليم السائد في عواصم المحافظات، بل ويتفوق عليه في أحيان كثيرة، عندما يتعلق الأمر بما يتسم به من انضباط واستقرار وجودة في المخرجات، علاوة عن سمعته التي أضحت محل إعجاب الجميع، وتقدير الجهات التعليمية العليا ذات العلاقة.

لقد مرت البلاد عموما بظروف سياسية استثنائية شهدت فيها تحولات مهمة عدة، وسادت خلالها الاضطرابات، ونشبت أثنائها الصراعات، وهي الفترة الزمنية المتمثلة بمرحلة ما بعد الوحدة الاندماجية مع الشمال، وما تلا ذلك من اجتياح للأرض الجنوبية في حرب صيف 1994م، حيث صاحب تلك المرحلة تقلبات تعليمية مهمة وصعوبات جمة، تمثلت في توجه سياسي ممنهج للنظام السياسي اليمني لتدمير التعليم في الجنوب وحرف بوصلته، وقد تبدت أهم مظاهر ذلك التوجه الأرعن: في استهداف شامل للمنهج الدراسي بتغييره، وخصخصة مؤسسات التعليم والتقليل من موازناته، وإضعاف سياسة القبول والدراسة في كليات المعلمين بما ينعكس على مخرجاتها، بالشكل الذي يسهم في إضعاف جودة التعليم العام الذي سيلتحقون مجددا فيه للعمل.
كما حرص النظام اليمني في إطار سياسته التجهيلية تلك على خفض عدد الوظائف المرصودة للتربية والتعليم في الجنوب، وتقديم البعد السياسي كمعيار أساسي في عمليات التعيين والترقي بقطاع التربية والتعليم، وتشجيعه لظواهر غريبة تتناقض كليا مع الأسس السليمة للعملية التربوية والتعليمية كالرشوة، وإقحام الغش في الامتحانات المرحلية والنهائية، فتركت تلك السياسة القذرة عظيم الأثر على كفاءة التعليم وفاعليته وجودة مخرجاته في محافظات الجنوب، وتراجع مستواه تبعا لذلك بشكل مخيف.

غير إن التعليم في مديرية حالمين أخذ منحى مغاير تماما، فلم يتأثر بنتائج تلك السياسة الوضيعة، وظل متماسكا ومحافظا على كفاءته على الدوام، بفعل وجود قائد تربوي فذ على رأسه أنه الأستاذ القدير ناجي أحمد محسن، فقد وقف ذلك الرجل رحمه الله تعالى كالصخرة الصماء في وجه تلك المحاولات البائسة لإضعاف التعليم وتدميره، يسانده في ذلك المسعى النبيل نخبة من التربويين الأجلاء من الزملاء وممن تتلمذوا على يديه وفي ظل قيادته، فقد التفوا حوله وشكلوا بذلك الموقف المشرف سورا منيعا، يستحيل تجاوزه أو القفز عليه، وبذلك الفعل البطولي انتصر المشروع الداعي للحفاظ على التعليم في هذه المديرية الولادة بالقادة والرجال، وفشلت ما دونها من جهود ومحاولات.

لم يكن ارتباط الأستاذ ناجي أحمد بعمله التربوي ارتباطا طبيعيا وعابرا كحال الكثير ممن تربعوا على سلم القيادة التربوية في بلدنا، بل لقد كانت هناك علاقة عضوية ومصيرية تربطه رحمه الله بعمله يستحيل تصورها أو تقديرها، فهو لا يتعاطى مع وظيفته على أنها مجموعة من المهام تُؤدى خلال ساعات محددة من اليوم، بل أن فلسفته ورؤيته لذاك تقول غير ذلك، فهو ينظر لوظيفته وعمله بنوع من القداسة التي يجب أن تُسخر في سبيلها كل القدرات والأوقات، فنراه يواصل ليله بالنهار لمتابعة مجريات سير العملية التربوية والتعليمية في مناطق حالمين المترامية، سهول وجبال ووديان ومنحدرات، لإزالة ما يقف بسبيلها من صعوبات وتحديات ومعوقات مختلفة، فينبري برحابة صدره وسعة أفقه ورجاحة عقله للتعاطي الحكيم والعقلاني معها لحلحلتها وتسويتها، دون أي حاجة تذكر للاستعانة بأي جهات تربوية أخرى.

لقد أمتاز رحمه الله تعالى بسمات تربوية وقيادية نادرة قلما نجدها لدى غيره، فإلى جانب تحليه بالحزم وتأكيده المستمر على أهمية التقيد بالقوانين واللوائح واحترام الأنظمة التربوية المتعارف عليها، التي يكون هو نفسه أول الملتزمين بها، فقد اتصف بمهارات إنسانية كبيرة تجلت في ممارساته اليومية، فقد دأب في تعامله مع مرؤوسيه من معلمين وإدارات مدرسية وحتى أولياء أمور وطلاب بتركيزه على البعد الإنساني، باتباعه أساليب راقية قوامها الإخلاق الحميدة والود والاحترام والتقدير والعطف، مقدرا لهموم مرؤوسيه وظروفهم، ساعيا في البحث عن حلول ومعالجات مرضية وناجعة لها، وفي السياق هذا فقد أكدت معظم نظريات القيادة وأوصى العديد من الخبراء والمهتمين في الإدارة، على أهمية الأخذ بالبعد الإنساني في العمل القيادي، لما له من أهمية ودور في نجاح الإدارة والعمل، ولعل هذا البعد تحديدا كان أحد أهم الأسباب والعوامل التي تقبع خلف نجاح قيادة الأستاذ ناجي أحمد رحمه الله للعمل التربوي طيلة عقود عدة.

لم يكن الأستاذ ناجي أحمد رحمه الله قائدا تربويا فحسب، بل فقد كان أيضا شخصية اجتماعية مرموقة، وصاحب رأي سديد وكلمة مسموعة، وذا خبرة في مجالات حياتية عدة، حظي باحترام واسع من لدن أفراد المجتمع وشرائحة، فكان يُستعان به عند الفصل في العديد من القضايا والنزاعات التي تحدث.
كما لعب بأدوار وإسهامات ملموسة وواضحة، في دفع وتحريك العديد من المشاريع والمنجزات الأهلية.

ختاما:
الفقيد الأستاذ ناجي أحمد محسن رحمه الله تعالى، رجل جمعت شخصيتة خصال عديدة، فإلى جانب سمات القيادة التي تمتع بها، تميز بالتواضع والبساطة والكرم والنخوة ومشاعر الرحمة، وحب الخير، والصدق، والأمانة، والعدل، والصبر، فكان بارا بأهله وأقربائه، وتربطه شبكة واسعة من العلاقات الاجتماعية مع الآخرين، قوامها الحب والاحترام.

كما كان حكيما وفطنا وسريع البديهة، ولديه خبرة عريقة ودراية واسعة بالأمور والأشياء والأحداث، ويمتلك القدرة على اتخاذ القرار الناجح والسريع في أحلك الظروف والأوقات، تجد عنده حلولا ناجعة ومبادرات لكل ما يطرأ من مشكلات ومعضلات، يسارع دائما في إسداء النصح والإرشاد لمن حوله في مختلف الظروف والأحوال.

لقد مثل رحيل الأستاذ ناجي أحمد محسن صدمة مؤلمة، وترك بغيابه هذا فجوة يستحيل ملؤها، وخسارة يصعب تعويضها، ولكنها أقدار ربنا حين تنزل لا مرد لها، فسيرته العطرة الحافلة بالعمل والعطاء والإخلاص والأمانة ستظل نبراسا يُهتدى به، وأنموذجا يُحتذى فيه.

نم قرير العين أبا نشوان، فوالله الذي بسط الأرض ورفع السماء، لن ننساك ما دمنا على هذا الوجود أحياء، وأرواحنا في الأجساد، إلى إن ننزل القبور ونتوسد اللحود.

والله على ما نقول شهيد.

نبذة عن الكاتب

مقالات ذات صله

الرد