من فضلك اختار القائمة العلويه من القوائم داخل لوحة التحكم

مسؤوليته الحفاظ على الاستقرار المالي

الدكتور عادل عامر

كثُرَ الحديث في الأيام الأخيرة عن إمكانية – أو حتمية – اللجوء إلى صندوق النقد الدولي (IMF) للتصدّي للأزمة المالية والنقدية الخانقة في لبنان. ضغوطات الدين العام متصاعدة بلا هوادة، وتتصاعد معها النداءات لوضع “خطة إنقاذ اقتصادية” قادرة على إخراج الدولة من مأزقها وتفادي الانهيار الكامل. يسود هذا الحديث حالة فزع وهلع جماعية يواكبها ارتباكٌ كاسح من التداعيات المحتملة لهذا المسار.

 ففيما يصرّ البعض على ضرورة اللجوء إلى صندوق النقد بصفته المنقذ من الأزمة، يذهب آخرون إلى التحذير من أنّ هذه الخطوة سوف تمثل آخر مسمار في نعش الاستقلالية الوطنية وارتماءً على طاولة الإملاءات الخارجية التي تهدف إلى إخضاع لبنان لنهج النيولبرالية المطلقة تحت الرعاية الأميركية. في ظل حالة الالتباس هذه، نحاول هنا تسليط الضوء على تاريخ وممارسات صندوق النقد الدولي، بهدف توضيح القضايا والأسئلة الأساسية التي يطرحها خيار اللجوء إليه.

كثيراً ما يُطلَق مصطلح “مؤسستا بريتون وودس” على ثنائية صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، نسبةً للمؤتمر الدولي الذي انعقد في العام 1944، والذي هدف إلى إعادة هندسة المنظومة الاقتصادية والمالية الدولية سعياً لتفادي المزيد من الكوارث الاقتصادية كتلك التي عصفت بالعالم على مدى النصف الأول من القرن العشرين وخلقت مناخاً خصباً للحروب الشاملة المُهلِكة. فتأسست هاتان المؤسستان نتيجة الاتفاقية التي نجمت عن ذلك المؤتمر، وأُنيطت بهما مسؤوليات وصلاحيات متشابكة ومتكاملة.

كُلّف البنك الدولي بالإشراف على إعادة الإعمار في أوروبا إثر الحرب العالمية الثانية؛ بينما أُنيطت بصندوق النقد الدولي مسؤولية الحفاظ على الاستقرار النقدي والمالي في العالم، من خلال الإشراف على أسعار الصرف المربوطة بالذهب في ذلك الحين، وتوفير السيولة عند الضرورة لدولٍ تواجه ضغوطات على ميزان مدفوعاتها، بالإضافة إلى إقراض الدول الأعضاء إذا كانت بحاجة إلى تحفيز إجمالي الطلب (aggregate demand) في أسواقها الوطنية تجنباً لركود الإقتصادي أو تخفيفاً من وقعه. وبعد فك ارتباط سعر الدولار بالذهب في عام 1971 والانتقال إلى أسعار صرف متحركة، تبدّد دور الصندوق فيما يتعلق بالإشراف على أسعار الصرف، وباتت مسؤوليته الأكبر هي الحفاظ على الاستقرار المالي والنقدي الدوليين. وكما يشير الاقتصادي البارز والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد جوزيف ستغلتز،

 هنالك مفارقة كبيرة في كون فكرة الصندوق قد تبلورت إدراكاً لمخاطر إخفاقات السوق الحرة وبناءً على الفكر الكينزي (نسبة إلى عالم الاقتصاد البريطاني جون مينارد كينز) المرتكز على ضرورة الإشراف والرقابة على السوق، بينما أصبح الصندوق فيما بعد من أبرز دعاة هيمنة السوق المطلقة. وفيما يتعلق بالسياسات الضرائبية والإنفاقية، ارتهنت قروض الصندوق بالتزام الدول المَدينة بسياسات تقشفية قاسية في الإنفاق، حتى في ظل أزمات خانقة تطلّبت تدخل القطاع العام لتحفيز النشاط الاقتصادي في البلاد إلى حين استعادة القطاع الخاص قدرته على الاستثمار والإنتاج. وأصرّ الصندوق على هذه الوصفة حتى في دولٍ لم تكن أمام أزمة دين عام بنيوية لتبرير هاجس الإنفاق غير المستدام.

 وقد جاءت حصيلة سياسات التقشف كارثية في العديد من الحالات، إذ تفاقم الركود وسبّب انهياراً كاملاً، كما حصل في روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وفرض الصندوق لسياسة “العلاج بالصدمة” (shock therapy) على الاقتصاد الروسي.

وقد أدت هذه الشروط إلى كساد اقتصادي انعكس في تراجُع في متوسط العمر المتوقع للرجال من64  سنة في عام 1990 إلى 57 سنة في عام 1994، على أثر سياسات التقشف الصادمة التي فككت القطاعات الصحية والضمان الاجتماعي وغيرها من القطاعات العامة. وربما تُعد تجربة دول شرق آسيا في أواخر التسعينيات أبرز تجربة في هذا الصدد، حيث عصفت بها أزمة مالية في العام 1997 وكثيراً ما يُشار إليها كخير دليلٍ على مخاطر اللجوء إلى الصندوق.

بعد توجيه جهات مختلفة انتقادات شديدة لنهج الصندوق، لا سيّما عقب سياسة “المعالجة بالصدمة” التي أنتجت كارثةً في روسيا وأزمة في شرق آسيا، أخذ خطاب الصندوق يتراجع تدريجياً عن تمسّكه الدوغماتي بمقدساته الثلاثة، أي اللبرلة والخصخصة والتقشف. فرأى البعض بأنه كان مقبلاً على مرحلة إصلاح داخلي يفُكّ أو على الأقل يُضعِف ارتباطه “بتوافق واشنطن”. وتمثّل هذا المسار الإصلاحي في سلسلة إجراءات لافتة،

من ضمنها تأسيس مكتب التقييم المستقل Independent Evaluation Office في عام 2001 للإشراف على ممارسات وسياسات الصندوق. ويشير آدم توز، الأستاذ في التاريخ الاقتصادي في جامعة كولومبيا في نيويورك، إلى أنّ مكتب التقييم حاول الدفع باتجاه إصلاح جذري في إعادة هيكلة الديون السيادية،

ولكنه اصطدم بمعارضة قوية من القطاع المالي الغربي، ما أجبره على التنازل عن هذا الطرح. وتدلّ هذه التجربة من جهة على نية الإصلاح في داخل المؤسسة، ومن جهة أخرى على العوائق البنيوية للإصلاح الفعّال الناجمة عن تركيبته الداخلية وخضوعه لضغوطات الدول الكبرى وقطاعاتها الخاصة ولا سيما القطاع المصرفي الأميركي.

وأتت الأزمة المالية الدولية عام 2008 لتحفّز على الإصلاح من جديد، كونها قلبت “المسلّمات” الاقتصادية رأساً على عقب وكسرت الأرثوذوكسيات المعهودة. لم يؤدِّ صندوق النقد دوراً بارزاً في بدايات الأزمة، إذ تركزت تداعياتها على الاقتصادات الكبرى،

ولا سيما الولايات المتحدة، فأقبلت الحكومات الوطنية على اتخاذ إجراءات لمعالجتها من دون الحاجة إلى مساعدة الصندوق. إلّا أنه عندما تُرجمت الأزمة بتجميد حادّ في توافر السيولة لدى دول الجنوب العالمي التي لم تملك القدرات الضرورية للتصدّي لهذه الظاهرة بأحادية، تدخّل الصندوق لتوفير الدعم.

 وعلى عكس تجاربه الماضية، حاول الصندوق إنشاء آليات غير تدخلية لتوفير السيولة، فعرض للمكسيك ولبولندا مساعدة عبر أحد خطوط ائتمانه المرنة (flexible credit lines) الجديدة، أي من دون الاعتماد على برامج “التعديل البنيوي” المثقلة بالشروط القاسية. كذلك تراجع الصندوق عن موقفه الذي عُرف بالعداء المطلق للقيود المفروضة على تحويلات الرساميل ما بين الدول (ما يُسمى بالكابيتال كونترول)،

 حيث تبنّى رسميّاً في العام 2012 ضرورة فرض هذه القيود في بعض الحالات تجنباً للتقلبات في السوق التي من شأنها أن تزعزع الاستقرار المالي في دول ربما لا تملك قطاعاتها المالية القدرات المؤسساتية لتحمُّل الصدمات الناجمة عن التدفّق والخروج المفاجئ للرساميل الهائلة، كما حصل في أزمة 1997.

ستند إلى بيانات صندوق النقد الدولي وجهات الإحصاء للدول، تجاوزت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية 150 في المائة لدى ثماني دول حول العالم بنهاية العام الماضي 2020، بينها ثلاث دول تفوق ديونها 250 في المائة إلى ناتجها المحلي.

وتتصدر فنزويلا الدول الثماني بنسبة دين إلى الناتج تبلغ 350 في المائة، واليابان 266 في المائة، والسودان 259 في المائة، واليونان 206 في المائة، ولبنان 172 في المائة، والرأس الأخضر وإيطاليا 156 في المائة لكل منهما، وليبيا 155 في المائة.

وتشير البيانات إلى أن قائمة أعلى دولة من حيث نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي تشمل ثلاث دول عربية هي السودان (قبل حصولها على إعفاء من بعض ديونها)، لبنان وليبيا.

على الجانب الآخر، حلت دولتان عربيتان بين أقل عشر دول في العالم في نسبة الدين للناتج المحلي، وهي الكويت 11.5 في المائة، وفلسطين 16.4 في المائة من الناتج.

وجاءت السعودية بين أقل 30 دولة حول العالم في نسبة الدين إلى الناتج المحلي بـ32.5 في المائة، بعد بلوغه 853.5 مليار ريال بنهاية عام 2020، فيما كان الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية في العام ذاته نحو 2.63 تريليون ريال.

خليجيا، جاءت الكويت الأقل ديونا كنسبة من الناتج المحلي بـ11.5 في المائة، ثم السعودية 32.5 في المائة، والإمارات 36.9 في المائة، وعمان 55.9 في المائة، وقطر 71.8 في المائة، والبحرين 128 في المائة.

وجاء ترتيب الدول العربية من حيث الأقل كالتالي: الكويت 11.5 في المائة، فلسطين 16.4 في المائة، جزر القمر 26.8 في المائة، السعودية 32.5 في المائة، والإمارات 36.9 في المائة.

خلفها جيبوتي 42.2 في المائة، موريتانيا 53.1 في المائة، عمان 55.9 في المائة، الجزائر 57.2 في المائة، العراق 68.3 في المائة، قطر 71.8 في المائة، المغرب 77.4 في المائة، واليمن 81.7 في المائة.

بينما مصر 88 في المائة، الأردن 92.4 في المائة، البحرين 128 في المائة، ليبيا 155 في المائة، لبنان 172 في المائة، والسودان 259 في المائة.

نبذة عن الكاتب

مقالات ذات صله

الرد