من فضلك اختار القائمة العلويه من القوائم داخل لوحة التحكم

ممنوع من القراءة

خرجت من منزل عمي بعد الظهيرة وشمس الصيف تلفح اجساد العالقين على شُبَّاك الحارة والباعة وكل من يتجول وسط شوارع مدينة الحديدة سوف يشعر بالدوران، هذه المدينة التي شاخت كإخوتها من مدن اليمن الغير سعيد، لا زالت أجواء العالم الثالث تمنحها بضعاً من صفات المدنية..
وكنت قد عَلِمت بخبر حادث حصل في إحدى قرى مسقط راسي، ومن سوء الحظ أن اول أديب قرأت له فاتحاً لي آفاق ولعتي الأدبية وشغف السرد الروائي هو من تعرض لذلك الحادث، ثم تذكرت بياناً اعجبني للدكتور حاتم الدوه، غير اني استبعدت فكرة التضامن الافتراضي والبيان عبارة عن مبادرة مجتمعية وانسانية تضامناً مع صاحبنا النابغة الذي يمثل كعيدنة واليمن في نتاجاته الفكرية والأدبية..
ذهبت من شارع جيزان باتجاه شارع صنعاء ثم التوجه شرقا بغية الوصول إلى منتزهٍ لا يرتاده إلا المرضى واهاليهم دونما رغبةٍ ولا غاية غير ما تنعم به انت الآن أو أمثالي الدارسين لمهنةٍ من مهن الطب الغربي! بينما اعرف نفسي جيداً كفتى لا يرغب بخوض الحديث عن أحداث الامس بقدرما يهتم بالتخلص من أحداث يومه ومعايشة الواقع بقناعة تامة عن ما يجب أن تفعله وانت تدرك جيدا ما تفعله فالحياة قصة قصيرة جداً ولكل منا قصصه الخاصة، منها ما تحتفظ به ومنها ما لا تكتبه لنفسك..

لقد نويت زيارة استاذي الأديب ابراهيم القيسي، سأجده معافى بفضل الله إلا من أثر الحادث وقوة اصطدام الدراجة النارية بجسده الطاهر وارتجاج بعض خلايا دماغه المتنامي حسب مصدر مجهول وقد اخرجوه من غرفة العناية المركزة إلى غرفة الرقود لاستكمال متابعة حالته الصحية وتقديم الرعاية التمريضية..

وكالعادة عندما ألتقي به في اي محطة من محطات حياتي الريفية المصابة بطفيليات المدنية الهشة أخوض معه بعض الاستفسارات عن الأدب الحديث بشكل عام ومؤلفاته الشعرية بشكل خاص.. بالصدفة وجدت ولده البار بنفس الشارع، وتبادر في ذهني ضرورة الاختباء وعدم مصافحته كصديق عابر، بعد ثوانٍ عصرت فيها دهشة المصادفة هاتفته من بعيد، ثم استقبلني عند بوابة المشفى ، وبينما نصعد الدرج ببطء القرويان خشية الاصطدام بأحد الزوار أو ذوي المرضى الذين ارتادوا المكان في زمن أُوقفت فيه عجلة حياة الشعب اليمني، حيث تتحول سيكولوجية المواطن وفكرة الحديث عن معاناته إلى شيء قد تكون تهمة كافية لتبق إمعة كمن يكتب منشورا يدين فيه وزارة ما لعاصمتا هذا الشمال او ذلك الجنوب فالحرب طالت وحقوق الموظفين مسلوبة، لولا الأدب الذي وجدته ملاذا للوطنيين بما تعنيه الكلمات ولا أعني كلماتي هذه الخارجة عن ديمومة رسالتي كفتى عشريني بل ما قرأته لمن قصدت زيارته، فالادب بحر عميق جدا إذ لا يحاصرك مجال معين كالفن التشكيلي حين يعبر لك عن انطولوجيا السلام أو الاعلام حين يخنق المجتمع اليمني والعرب بدخان الميتافيزيقيا المؤدلجة الخ…

– اليوم كيف سيكون اللقاء؟
سألت نفسي وانا اتذكر آخر ملامحه التي رأيتها في يومياته الأخيرة عبر صفحته بالفيسبوك.. لم أتذكر شيء
ومستشفى الأمل العربي التخصصي مليء بالزبائن.. عندما وصلنا للجناح وبعد أن راني مقبلاً برفقة ولده ابتسم قائلًا:
– أهلًا سهيل..
عندها تأكدت من الأمر الذي حدثني عنه ولده البار د.يوسف (فقدان الذاكرة) حيث ولديه الآخران شاركا معي قصة وقوع الحادث واختصر استاذي مجموعة تساؤلات لحوارهما بقوله:
– اذا حضر القدر عُميَّ البصر.. وما يحزنني أكثر هو انكسار هاتفي ففيه أجدد كتاباتي التي آمل أن تكون أول القراء كعادتك.. ثم قلت له ان كل شيء معوض
فجأة هاتفني احد الاصدقاء من أبناء الحديدة، اعتذرت للخروج إلى الشارع العام بشرط العودة وعند عودتي أخطأت برقم الغرفة فقد نظرت إلى اللوحة عند خروجي على أنها 305 واكد لي ولده يوسف بمكالمتي عند الصعود للمرة الثانية وظننت انها 503 حيث الرقم خيالي بالنسبة لهذا المبنى الخاص، ثم اتصلت بولده بعد بحث قصير وإدراكي للخطأ :
– أجزم أنني فقدت ذاكرتي، أو احدنا فقد ذاكرته بالفعل!
– ابي يقول لك انها 305.. كيف حفظ رقم الغرفة وهو مقعدا؟
– دعني اصل ونسأله.
عدت مجددا وعندما بدأت الحديث مع الأديب ابراهيم، بدأ بالإجابة على سؤالي لأشاركه الحوار ثم الآخر وتوقفت للاستماع بعد أن وصلته امانة تحية وسلام الأدبية نُصيرة ابنة وهران الجزائرية وانتهيت بخلاصة قصة اصداره “عاصف الرماد” شعر الصادر عن دار ميم للنشر والتوزيع، تلك الدار جعلت من البعد الجغرافي مسألة تمنعها من إيصال إصدارات المؤلف إلى بلده العربي خصوصا اليمني والسوري..

قطع الحديث الطبيب المختص وفيما اثار الأديب ابراهيم القيسي تقرير الطبيب وبوحه جهرا امامه:
– ممنوع من القراءة حتى إشعار آخر.
إشعار آخر أي لخمسة أشهر او اقل بشهرين
فقلت له:
– الممنوع معشوق واقسم لك أنه أول ما تطلق سراحه سيقرأ آية “العلق” أو قصة منعك غير هذه ، لأنك أيها الطبيب اليمني مثلك مثل غيرك ممنوعين من القراءة واذا لم تك ممنوعا بلا ارادة فلماذا لا تقرأ أنت أدباً، وهل القرآن ممنوع أيضا ؟ ليرد عليَّ بنبرة متعالٍ : نعم نعم ممنوع..
ثم خرج غاضبا كأنني فتحت معه ملف تحقيق وليس سؤال زائر ثرثار، وفي الحقيقة نجد أكثر الناس لا يعشقون القراءة، بينما عُشاق القراءة ستصادفهم اوامر منع مجهولة والأفضل اتباع قول الحق : اقرأ باسم ربك الذي خلق… وليس اتباع اي انسان على وجه الأرض بعد النبي محمد (ص) هذا فيما يتعلق بالصحة الشخصية والعامة وصحة المجتمع وازدهار البيئة وخلق جيل واعٍ ومجتمع آخر غير هذا الذي انتمي اليه كفتى يمني ويشاركني فيه انتماء عرب يتهيون في عالم المحتوى المرئي واتباع نظام التفاهة كما يشخصنا كتاب ألان جو الكندي فإن القراءة يا عزيزي القارى تخلق عالمك الخاص فمن الذي منعك من القراءة؟
وقد تمنع نفسك الآن حتى قصة حياتك لم تقراها بعد وما يمنعك منها هو ليس لأنك لا تجيد الكتابة بل أن الوقت سلب منك ارادتك وانت ساعدت الفرضيات بتعزيز اللامبالاة وصرت لا تقرأ مثلك مثل الجماد ولن تحرك ساكنا تجاه نفسك وحركة آخروية ستظن أن حركات نحوية تمنعك منها وليس من فهمها وقد لا أكون مكلفا بوضعها لتدخر معلومة ليست بجديدة ولأنني اقرأ في نفس اللحظة التي سأحتفظ بما كتبته بغية تدوين حدثٍ ما من قصصي الشخصية خارج إطار مواقع التواصل الاجتماعي.. فأنا مهتم بالقراءة أكثر من الكتابة والاستماع إلى المثقفين والمفكرين وطرح الأسئلة حول أي شيء يجب أن نعرفه ومن أجمل ما عرفته اليوم هو حوارنا حول سؤالي
– أسباب توقف الدراما اليمنية؟
ليحدثني على لسان اي مؤلف يمني، حيث أهمية وزارة الثقافة ووحدتها الشعبية قبل الدستورية ثم ثورة
– تراجع دور النشر العربية وعدم مواكبتنا للمعارض الدولية ؟
ليظل السؤال أمام الجميع كعلامة تعجب استفهمت عبارة ما قبلها وظل النشر مجرد مسألة نشر روتينية حيث ابعاد كثيرة تسببها الجهات الحكومية والتحركات الأممية لحصر ثقافة الشعوب الخ.!

-ولماذا ممنوع من القراءة؟
كل من يستخدم هذا العالم الافتراضي قادر على القراءة لكننا لا نقرأ بعد
-هل لأننا نتقيد بأعمالنا ونصف اليوم نمضيه في اتباع عنوان كهذا ؟
-هههه..
ضحكت وانا اعيش خارج المألوف تجاه ضحايا مقولة اليوم :
– ممنوع من القراءة. ومن تساؤلاتي الخاصة أيضا..
سأظل اضحك حول فرضية أن تكون ممنوعاً بدون سبب.. فقد كانت زيارتي بمثابة قصة لم تكتب بعد حيث تصطحب الفرضية معادلة الممنوع ممنوعا بتقرير غير طبي مثل عدم قراءة ما كتبته وبعدها أيقن معي أننا معرضون للانقراض!!

فلسفة خاصة 06/4
سهيل عثمان سهيل 2023

نبذة عن الكاتب

مقالات ذات صله

الرد