من فضلك اختار القائمة العلويه من القوائم داخل لوحة التحكم

الخطاب الاعلامي المعاصر وضرورة التطوير واتساع الرؤية

الدكتور عادل عامر

أن المقصود بالخطاب الاجتماعي والسياسي هو مجموع الأنماط والأدوات المستخدمة في صناعة الرأي العام أو صياغة المضمون الثقافي والاجتماعي للحركة الاجتماعية. فهو أداة حيوية في التأثير المباشر على الإنسان الفرد والجماعة.

وعلى هدى هذه الحقيقة نقول: أن استمرار الخطاب الاجتماعي والسياسي في التغذية المعكوسة لتلك التمايزات التاريخية والاجتماعية، يؤدي إلى أن يمارس هذا الخطاب دورا تقسيميا في الوطن والمجتمع. بينما من الضروري أن يتطور هذا الخطاب ويتجه نحو صياغة منظومة قيمية ومفاهيمية جديدة تحترم التمايزات التاريخية دون الانغلاق فيها، وتؤسس لواقع اجتماعي جديد يستمد من القيم الإسلامية والإنسانية العليا منهجه وبرامجه المرحلية.

ومن هنا فإننا نرى أن الكثير من التناقضات الاجتماعية كان للخطاب الاجتماعي والسياسي السائد الدور الكبير في تغذية هذا الشعور الذي يبلور كل عوامل التناقض الاجتماعي بشتى صوره وأشكاله. فالسلم المجتمعي لا يتحقق على قاعدة الحوار الاجتماعي فحسب، وإنما لابد من وجود مظلة اجتماعية سياسية تغذي وتكرس مفاهيم السلم المجتمعي والوحدة الوطنية.

وتطوير الخطاب الاجتماعي والسياسي يعني:

1- إعادة صياغة مضمون الخطاب الاجتماعي والسياسي بما ينسجم وضرورات الوحدة الوطنية والتلاحم الاجتماعي. وهذا يعني نبذ كل المقولات والعناوين التي تكرس واقع العداء والتقسيم في الوسط الاجتماعي.

2- توسيع القاعدة الاجتماعية لهذا الخطاب، بحيث أنه لا يكون معبرا عن مصلحة فئة اجتماعية محدودة. وإنما من الضروري أن يعكس الخطاب واقع المصلحة الاجتماعية العامة. وهذا لا يتأتى إلا بتوسيع القاعدة الاجتماعية، وتوفير كل مستلزمات ومقتضيات مجتمعية الخطاب الاجتماعي والسياسي.

3- إلغاء كل الحواجز المصطنعة، التي تحول دون تفاعل الوسط الاجتماعي العام مع مضمون الخطاب السياسي والاجتماعي.

4- تشجيع ورعاية كل القواسم المشتركة، التي تدفع باتجاه تمتين الوحدة الوطنية، وإنهاء كل أسباب القطيعة الاجتماعية.

وعن طريق هذه المفردات نحقق مفهوم تطوير الخطاب السياسي والاجتماعي. وبهذا التطوير الذي يلحظ ما هو اجتماعي وما هو سياسي ينجز مفهوم السلم المجتمعي وتتحول كل التمايزات التاريخية والاجتماعية إلى عوامل بناء وإثراء للتجربة الوطنية بأسرها.

الطريق إلى التعايش

حين الحديث عن التعايش بين مكونات وتعبيرات المجتمع والوطن الواحد، فإننا حقيقة نتحدث عن قيمتين أساسيتين وهما قيمة الاختلاف وقيمة المساواة.

فينبغي أن نعترف بحقنا جميعا بالاختلاف، وهذا الاعتراف ينبغي أن لا يقود إلى التحاجز وبناء الكانتونات الاجتماعية المنعزلة عن بعضها، كما أنه ينبغي أن لا يقود إلى التعدي على الحقوق.

فالتعايش هو حصيلة بناء علاقة إيجابية بين حق الاختلاف وضرورة المساواة. وأي خلل في هذه المعادلة، يضر بحقيقة التعايش في أي مجتمع ووطن.

ومفهوم التعايش بطبيعته ومضمونه، لا يلغي التنافس أو الخلافات بين المكونات والتعبيرات والأطياف، وإنما يحدد وسائلها، ويضبط متوالياتها.. فالتعايش لا يساوي السكون والرتابة، وإنما يثبت الوسائل الإيجابية والسلمية لعملية التنافس والاختلاف، ويرفض الوسائل العنيفة بكل مستوياتها لفض النزاعات أو إدارة الاختلافات والتباينات.

كما أن مفهوم التعايش، لا يرذل الاختلافات والتباينات بكل مستوياتها، وإنما يعتبرها حالة طبيعية وجزء أساسي من الوجود الإنساني، ولكنه يرفض أن تتحول عناوين الاختلاف والتباين، لوسيلة لامتهان كرامة المختلف أو التعدي على حقوقه الخاصة والعامة. فالتعايش كمفهوم وممارسة، لا يشرع بأي نحو من الأنحاء، لأي طرف مهما كان الاختلاف والتباين، إلى التعدي على الحقوق أو تجاوز الأصول والثوابت في التعامل مع المختلف وفق ضوابط العدالة والمناقبية الأخلاقية. لذلك يقول تبارك وتعالى في محكم كتابه [ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى].

لذلك فإن خلق معادلة متوازنة وحيوية بين مفهومي الاختلاف والمساواة، هو جذر التعايش وجوهره النوعي. فالاختلاف لا يقود إلى الظلم والافتئات، بل يؤكد قيم العدالة والمساواة.

إذا تحققت هذه المعادلة، تحقق مفهوم التعايش في الفضاء الاجتماعي والوطني. وبدون هذه القيم والحقائق لا ينجز مفهوم التعايش في أي مجتمع وفضاء إنساني.

ووفق هذه الرؤية فإن التعايش، لا يساوي أن يتنازل أحد عن ثوابته ومقدساته، وإنما يساوي الالتزام بكل مقتضيات الاحترام والعدالة لقناعات الطرف الآخر، بصرف النظر عن موقفك الحقيقي أو العقدي منها.

وهذه ليست حفلة تكاذب أو نفاق، كما يحلو للبعض أن يطلق عليها، بل هي جهد إنساني متواصل لتدوير الزوايا ومنع تأثير العوامل السلبية، التي توتر العلاقات بين المختلفين أو تعيدها إلى المربع الأول.

فالتعايش لا يقتضي الانشقاق أو التفلت من الثوابت أو الأصول لدى الأطراف، وإنما يقتضي الإصرار على خيار التفاهم وتوسيع المشترك وإدارة نقاط التباين وموضوعات الاختلاف بعقلية حضارية، توفر للجميع حق التعبير عن قناعاتها ووجهة نظرها، بعيدا عن الإساءة إلى الطرف أو الأطراف الأخرى.

وعليه فإننا نعتقد وبعمق أن خيار التعايش بين مختلف الأطياف والمكونات، التي يتشكل منها المجتمع والوطن الواحد، هو من الضرورات الدينية والأخلاقية والوطنية، لأنه السبيل لضمان حقوق الجميع بدون تعدي وافتئات، كما أنه الإمكانية الوحيدة وفق كل الظروف والمعطيات لصيانة الأمن الاجتماعي والاستقرار السياسي والوطني. ومن يبحث عن الحقائق الأخيرة بعيدا عن مفهوم التعايش ومقتضياته، فإنه يساهم في تأسيس بذور الكثير من الأزمات والكوارث الاجتماعية والسياسية.. فالمجتمعات المتعددة والتي تحتضن تنوعات عمودية وأفقية إذا صح التعبير، بحاجة إلى جهد لإدارة هذه التنوعات بعيدا عن إحن الماضي أو هواجس الخصوم.

فالاستقرار العميق في كل الأوطان والمجتمعات، هو وليد شرعي لحقائق التعايش ومتطلباته حينما تسود المجتمع بكل فئاته وشرائحه وأطيافه.

وعليه فإن صناع الوعي والمعرفة والكلمة في مجتمعنا، يتحملون مسئولية عظيمة في هذا الصدد. فهم معنيون راهنا ومستقبلا، بصناعة المعرفة التي تؤكد خيار التعايش، وتعمق أواصر التفاهم بين مختلف الأطياف. وهذا لا يتأتى إلا باشتراكهم الفعال في محاربة كل الأفكار التي تزرع الشقاق والأحقاد بين أبناء المجتمع والوطن الواحد.

لهذا فإن خطابات التحريض والتشدد والغلو ضد المختلف في الدائرة الوطنية والاجتماعية، لا تبني تعايشا ولا تحافظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي، لأنها وببساطة شديدة، تؤدي إلى خلق الحواجز النفسية والاجتماعية ضد المختلف، كما تساهم في إذكاء أوار التوتر والصدام. لهذا فإن الحديث عن التعايش، أو بالأحرى تبني هذا المفهوم وهذه المقولة، يقتضي الوقوف بحزم ضد كل مقولات التعصب والغلو والتشدد ضد المختلف.. لأن الآثار الخاصة والعامة المترتبة على نزعة التعصب والغلو، كلها آثار مناقضة ومهددة إلى أسس وحقائق التعايش في الفضاء الاجتماعي.

لهذا فإن الصمت إزاء نهج التعصب والمقولات التحريضية، يعد مساهمة مباشرة وغير مباشرة في إفشال نهج التعايش في المجتمع والوطن.

وعليه فإننا نعتقد وبعمق أن التعايش هو وليد منظومة مفاهيمية واجتماعية وثقافية متكاملة.. وإن من يتبنى نهج التعايش عليه أن يضيع منظومة فكرية واجتماعية متكاملة، حتى يكون سلوكه وكل مواقفه منسجمة ومقتضيات التعايش، وحتى يتمكن من موقع الأنموذج والقدوة للتبشير بهذا الخيار، ودعوة أبناء المجتمع إلى تبني هذا النهج كنهج يحفظ حقوق الجميع، ويصون استقرارهم، ويحافظ على مكتسباتهم. ومن الضروري أن ندرك جميعا أن نقص أو ضمور حقائق التعايش في أي مجتمع وتجربة وطنية، يساهم في تقويض مشروعات التنمية البشرية، ويزيد من الفجوات العمودية والأفقية بين مختلف التكوينات الاجتماعية مما يجعل الأرضية الوطنية مهيأة للكثير من الانقسامات و التشظيات.

وبمقدار ما نتمسك بقيمة المواطنة كوعاء حاضن لنا جميعا بذات القدر نعيد صياغة علاقتنا بانتماءاتنا الخاصة. فالمواطنة بكل حمولتها القانونية والحقوقية، هي القادرة على استيعاب كل التنوعات والتعدديات. وهي التي تحول دون انحباس احد في انتمائه الخاص. وهذا يتطلب منا جميعا مواطنين ومؤسسات رسمية وأهلية، العمل على صياغة مشروع وطني يستهدف تعزيز قيمة المواطنة. وإن تعزيز هذه القيمة في فضائنا الاجتماعي والوطني، يقتضي العمل على تفكيك كل الحوامل والحواضن الثقافية لظواهر التعصب والغلو والتشدد بكل مستوياتهما. لهذا فإننا مع كل مبادرة، تعزز قيمة التفاهم بين الأشخاص والأطياف، ومع كل خطوة تساهم في تدوير الزوايا الحادة بين مختلف الفرقاء.

رسالة إلى أهل الحوار والتعايش

عديدة هي المؤشرات والمعطيات، التي تجعلنا نعتقد أن دائرة المؤمنين بالحوار والانفتاح والتواصل بين مختلف مكونات المجتمع السعودي في ازدياد مضطرد. وإن هؤلاء يعبرون عن أفكارهم وقناعاتهم في العديد من المناسبات الاجتماعية والوطنية، ويعمل البعض منهم على القيام بمبادرات اجتماعية أو ثقافية، تستهدف كسر حاجز القطيعة والجفاء بين تعبيرات الوطن.. وهم بهذه الأعمال والمبادرات، يكسروا العديد من الحواجز النفسية، ويزيلوا من نفوسهم وعقولهم الركام الذي ساد في حقب زمنية سالفة، ومؤداه المفاصلة والابتعاد وخلق الحواجز بين المواطنين لاعتبارات مذهبية أو قبلية أو مناطقية.

لهذا فإن هذه الخطوات والمبادرات، تساهم في تفكيك الثقافة التي صنعت موقف الجفاء والقطيعة، كما تساهم في إزالة الرين الذي بقى في النفوس، وتدثر بمقولات جاهزة واتهامات وسوء ظن، وكلها تفضي إلى التباغض والابتعاد عن بعض.. ولكن ومنذ انطلاق مشروع خادم الحرمين الشريفين حفظه الله تعالى للحوار الوطني، وتأسيس مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، أضحت الأصوات المطالبة بالحوار والتواصل وتجاوز الخلافات وبناء مواطنة متساوية في الحقوق والواجبات عالية.

لهذا فإننا نعتقد أن دائرة الحوار والتواصل والتعايش في داخل المجتمع السعودي، بدأت بالاتساع، وأضحت هذه الدائرة أو هذا الخيار، يمتلك زخما هائلا، من جراء اتساع دائرة المطالبين بهذه القيم والمبادئ. لهذا فإنه مهما علت الأصوات المتشددة والنابذة لخيار الحوار والتعايش، فإن حركة الحوار والتعايش، أضحت حقيقة قائمة، وأصبح المعبرون عنها من كل الأطراف والأطياف كثر ومتعددون في مواقعهم وحيثياتهم الاجتماعية والمعرفية والثقافية.

واعتزاز كل طرف أو طيف بذاته وخصوصياته، لا يلغي متطلبات الوحدة وشروطها النفسية والأخلاقية.. وقد جاء في الحديث الشريف [العصبية التي يأثم عليها صاحبها، أن يرى الرجل شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم].

وفعالية الحوار في المجتمع وبين جميع الأطياف وعلى مختلف المستويات، تنبع من أنه يجعل كل الآراء والقناعات والمواقف في ساحة التداول، لتقويمها وتمحيصها وتطويرها. ولا ريب أن لهذه العملية التداولية تأثيرات إيجابية على الصعيد المجتمعي، حيث أنها تحرك الراكد، وتساءل السائد، وتبحث في آفاق وفرص جديدة وممكنة. وفي المحصلة النهائية تكون عملية الحوار فعالية مجتمعية متميزة.

وأود في هذا السياق، أن أوجه حديثي المباشر، إلى الأطراف الوطنية من مختلف المواقع، التي تؤمن بخيار الحوار والتعايش، وتدافع عنه، وتعمل عبر وسائل الإعلام والثقافة والمبادرات الاجتماعية إلى تعزيز هذا الخيار على المستوى الوطني.

وإن الدرس العميق الذي ينبغي أن ندركه وبعمق، أن طريق الحوار والتعايش، ليس معبدا بالورود، وإنما هو طريق مليء بالأشواك والصعوبات. وإن ارتفاع صوت التشدد والمفاصلة ونكران أهمية الحوار والتعايش، ينبغي أن لا يدفعنا إلى اليأس أو العودة إلى المربع الأول، حيث الجفاء والمفاصلة الشعورية والعملية.

إننا نعتقد وبعمق، إن الحوار والتعايش، هو وسيلتنا لصون الحرمات، وحل المشكلات، ومحاصرة نزعات الفتنة والتشدد. وإن الهويات الثقافية لدى أي جماعة بشرية، لا تقوم على المطابقة والتماثلية المميتة، وإنما على التعدد والتنوع المفضي إلى إثراء المضمون الإنساني لمفهوم الهوية الثقافية.

ففي فضاء الحوار، يتكامل منطق الاختلاف ومنطق الاعتراف، وصولا إلى تأسيس دينامية اجتماعية – وطنية جديدة، تتجه صوب التعايش على أسس الاحترام المتبادل..

ولنتذكر دائما وصية الحكيم لقمان لأبنه حينما قال: يا بني، كذب من قال أن الشر بالشر يطفأ، فإن كان صادقا فليوقد نارين ولينظر، هل تطفئ أحدهما الأخرى، بل يطفئ الخير الشر كما يطفئ الماء النار. فمهما علت الأصوات النابذة للحوار، والمانعة للتعايش، ينبغي أن نتشبث بهما.

فالاستقرار الاجتماعي والوطني، مرهون بمدى قدرتنا على الحوار والتعايش على أسس العدالة والمساواة.

وصعوبات الواقع ليست مبررا للتنازل عن هذا الخيار، بل على العكس من ذلك تماما. فمهما كانت الصعوبات، ينبغي أن نبذل كل الجهود لتذليلها ومعالجتها.

وفي سبيل مواجهة صعوبات الواقع، من الضروري أن يلتفت أهل الحوار والتعايش إلى ضرورة العمل لزيادة وتيرة التعاون والتنسيق مع بعضهم البعض.

فمواجهة الصعوبات تقتضي العمل على بناء كتلة وطنية ممتدة على مستوى الوطن كله، تطالب بالحوار والتعايش، وتعمل معا من أجل تعزيز فرص نجاح هذا الخيار على الصعيد الوطني.

فالحوار ليس ادعاء يدعى، بل هو ممارسة مستديمة وفعالية مجتمعية، تستهدف خلق حقائق ومقتضيات الحوار في الفضاء الاجتماعي والوطني.

والتعايش ليس سكونا وانزواء، وإنما مواطنة متساوية في الحقوق والواجبات، وتفكيك ومحاصرة لنزعات الغلو والتطرف والتشدد، وإعلاء لقيم التسامح والاعتراف بالمختلف والمغاير وجودا ورأيا وحقوقا. وكل هذه لا تتأتى تلقائيا، وإنما بحاجة إلى جهد ومثابرة ومبادرة وتعاون وتعاضد.

من هنا فإننا نتطلع أن تتكاتف الجهود الرسمية والأهلية، من أجل تعزيز خيار الحوار والتعايش في مجتمعنا ووطننا.. وذلك لأن تعزيز هذا الخيار، في أي فضاء اجتماعي، يتطلب الكثير من الجهود والمبادرات وصناعة الحقائق والوقائع، وإن أي تراخي عن هذا الطريق، سيفضي إلى ارتفاع صوت التشدد ونبذ الحوار والتعايش. لهذا فإن الكتلة الوطنية الرافعة لمشروع الحوار والتعايش، والعاملة من أجل تنفيذ بنوده وصنع حقائقه، هي سبيلنا لمحاصرة التطرف وتفكيك موجباته ومقتضياته. وهو الخيار الذي يضمن حقوق الجميع، ويحافظ على أمننا الاجتماعي واستقرارنا السياسي.

فآن الأوان بالنسبة إلى المؤمنين بمشروع الحوار والتعايش الوطني، أن يرفعوا صوتهم، ويبشروا ببركات هذا الخيار، ويعملوا من أجل غرس مستلزماته في كل دوائر ومستويات الحياة الاجتماعية والوطنية. والأوطان لا تبنى بإيقاظ الفتن وحروب الأوراق الصفراء، وإنما بالإرادات الوطنية الصادقة والمخلصة، والتي تسعى لاستيعاب كل التنوعات والتعدديات، وتعمل لبناء حقائق الألفة والوحدة على أسس الحوار الذي لا يقصي أحدا، ولا ينبذ مكونا، والتعايش الذي لا يلغي التنافس وسنة التدافع، وإنما يوفر لها الفضاء المدني والسلمي، الذي يفسح المجال للجميع، لكي يمارس حقه وواجبه، في تعزيز أواصر التلاحم الاجتماعي والوطني، ويطرد كل القيم والحقائق المضادة لقيم الحوار والتعايش والوحدة.

إن التكنولوجيا ليس من الواجب أن ترادف التجهيز التقني لأنها تحيل إلى المعرفة… وهي مجموعة المعارف المناسبة والضرورية لخلق المستحدثات البشرية وتكيفها وصيانتها. وتشكل هذه المستحدثات الجانب المتفاعل بين بني البشر وبيئاتهم، فهي التي تتيح لهم تعويض النقص الطبيعي في كفاءاتهم تجاه محيطهم المعقد.

التكنولوجيا ليست إذن آلات أو تجهيزات تنتج وتستهلك كباقي وسائل الإنتاج، ولا هي سلعة تتمتع بدور عادي في تكوين رأس المال والرفع من مستوى القدرة الإنتاجية. التكنولوجيا هي أولا وقبل كل شيء عقلية إنتاج وعلاقات إنتاج بحكم السلوكيات والمفاهيم التي تحكم نظام الإنتاج. وهي فضلا عن ذلك جزء من نظام اجتماعي وأخلاقي، وبالتالي من مجموعة قيم كالقيم السائدة في المجتمع التي تتأثر بها وتؤثر فيها وتتفاعل معها.

ما النظرة التقليدية للتكنولوجيا وللتحولات التكنولوجية فهي تعرفها كمجموعة محددة من التقنيات لا تعدو كونها جزءا من عملية انصهار منسقة لموارد معينة والتحولات التكنولوجية مع مرور الزمن.

وهذا يعني باختصار أن التكنولوجيا متوفرة وأن عملية انتشارها إنما تتأتى من احتضان الهياكل الاقتصادية لها.

وإلى جانب هذا هناك إشكالان اثنان على الأقل يوردهما الكاتب لتوضيح مفهوم القطيعة التكنولوجية:

الإشكال الأول ذو طابع مفاهيمي ويتعلق أساسا بطبيعة التكنولوجيا والتحولات التكنولوجية.

والإشكال الثاني تحليلي وسائل المقاربة الممكنة لمعالجة الارتباط الزمني بين التكنولوجيا والهياكل الاقتصادية أو الإنتاجية.

في المحددات الأساسية لتطور تكنولوجيا الإعلام والاتصال يلاحظ المؤلف أن هناك محددان اثنان في تسريع وتيرة تطور تكنولوجيا الإعلام والاتصال:

المحدد الأول ويتعلق أساسا بالدور الكبير الذي لعبته الرقمنة والامتيازات التي منحتها لتكنولوجيا الإعلام والاتصال منفردة وفي تعاضدها.

المحدد الثاني ويرتبط على الخصوص بالنمو الضخم الذي عرفته الاقتصاديات الغربية الكبرى نتيجة عولمتها وتطور مؤسساتها الإنتاجية والاجتماعية، وتغيير طبيعة الطلب داخلها وخارج كياناتها.

والرقمنة هي إحدى أقوى التحولات النوعية الكبرى التي عاشها القطاع منذ أكثر من عقدين من الزمن، إذ بفضلها أصبحت هذه الميادين تتوفر على لغة موحدة ومشتركة. فإذا كان الإرسال يتم من ذي قبل بطريقة تشابهية، فإن الرقمنة قد مكنت من تحويل الإرسال إلى إشارة مشفرة في لغة مرقمنة، وهو ما يمثل قلبا “جذريا” للأنظمة المعلوماتية. ففي ميدان الاتصالات مثلا لم تعد المقاسم الهاتفية مجرد أجهزة لتحويل المكالمات بل عقول الكترونية مبرمجة لإرسال المعطيات المعلوماتية والصوت الإنساني وكذا الصورة (محولة إلى لغة رقمية).

وهذه الرقمنة هي التي مكنت أيضا من تقارب وتمازج الحواسيب وأجهزة الاتصالات. ويعود الفضل في كل هذا إلى تطور الإلكترونيات الدقيقة. وهذا يعني أن معدات معالجة البيانات ونقلها ستتحدث بنفس اللغة.

وما حاول المؤلف تبيانه خلال فصول مبحثه الأول هو التركيز على مجموعة من الأفكار والمعطيات تبدو له أساسية لفهم ومقاربة الصورة التاريخية للتطورات التكنولوجية التي ميزت ومست (ولا زالت تمس وبعمق) قطاع الإعلام والاتصال.

فحاول توضيح أن تاريخ هذا القطاع إنما هو وبالأساس تاريخ التطورات التكنولوجية المتتالية والمتشادة والمبنية على قوة الاكتشافات والاختراعات. كما أن هذه التطورات لا يمكن مقاربتها من خلال مصطلح القطيعة التكنولوجية بل عبر ومن خلال مصطلح التراكم التكنولوجي، إذ تتكامل فيه التكنولوجيا وتتداخل و لاينفي لاحقها سابقها بقدر ما يتبناه وينطلق من نقطة نهايته. وهي بالتالي تعمل في محيط اقتصادي وسوسيوثقافي له منظومة عقائد وسلم قيم.

ويضيف ملاحظة أخرى تفيد أن من هذه التطورات التكنولوجية ما كان لها الدور الحاسم والقوي في الدفع والتسريع بوثيرة نمو واتساع القطاع كظهور الرقائق والإلكترونيات ولا سيما الرقمنة التي كان لها الفضل في الانفجار الإعلامي والاتصالاتي الذي نعيشه نهاية هذا القرن. ويشير أن نهاية هذا القرن تصادف ما اصطلح على تسميته ب “اقتصاد الإعلام والاتصال”. وهذا المصطلح حتى لو طابق نمط الإنتاج والاستهلاك الجديد وانحسار النموذج الصناعي التقليدي، فهو لم يفرز بعد ما يمكن تسميته ب “مجتمع الإعلام والاتصال”.

أما الجزء الثاني من الكتاب والذي تطرق إلى مقومات الخطاب التكنولوجي العربي وإخفاقاته فهو استنبط مجموعة من القضايا التي يعتبرها أساسية لفهم الإشكالية التكنولوجية في الوطن العربي.

أولى هذه القضايا الأساسية عدم تطابق الخطاب التكنولوجي العربي مع الممارسات التكنولوجية العربية. فإذا كان الخطاب الأورتودوكسي ينطلق من ملاحظة الهوة التكنولوجية بين العرب والغرب، فإنه يقترح تضييقها عبر ما أسماه ب “نقل التكنولوجيا”، بينما ينطلق الخطاب الأول من نفس الملاحظة لكنه لا يتبنى هذا الطرح إلا جزئيا بحكم إيمانه بضرورة تنمية القدرات الذاتية العربية وتأسيس ما يسميه بالعمل العربي المشترك.

وثاني هذه القضايا الأساسية هي غياب استراتيجيات تكنولوجية قطرية ناهيك عن غيابها على المستوى القومي. وهو ما ترتب ويترتب عنه نزيف ضخم للكفاءات العربية واستقطابها من لدن الدول الصناعية الكبرى ومختبرات شركاتها المتعددة الجنسيات، فضلا عن حرمان الأمم من عقول استثمرت في تكوينها موارد مالية وبشرية كبيرة.

وثالثها غياب الرؤية المستقبلية لدور العلم والتكنولوجيا في الوطن العربي. وما يصدق على التكنولوجيا عموما يصدق قطعا لدى مقاربة تكنولوجيا الإعلام والاتصال خصوصا والثانية على أية حال أحد روافدها الأولى. والكتاب مطول يضم العديد من المحاور التي تندرج ضمن رؤية تركز على التحديات التكنولوجية التي تواجه الوطن العربي في ميدان الإعلام والاتصال على ضوء النظام الدولي الجديد.

فلم يكن غرضه التفصيل قدر ما كان أساسا طرح الإشكالية الإعلامية والثقافية لهذين النظامين.

وقد حاول التركيز على مجموعة من القضايا أهمها:

+ أن النظام العالمي الجديد للإعلام والاتصال الذي طالبت به دول العالم الثالث في السبعينات وتبنته اليونسكو حينها إنما هو تقييم جاد وعميق لقضايا الاختلال والخلل في العلاقات الإعلامية الدولية شأنها في ذلك شأن العلاقات الاقتصادية.

+ من هنا ففلسفة النظام وأهدافه وأبعاده نبعت أساسا من ضرورة تبني قواعد وأسس جديدة على عكس الممارسات الإعلامية التي سادت مرحلة “الاستقلالات السياسية” على الأقل بالنسبة لدول العالم الثالث. ويضيف أن المناداة بنظام إعلامي عربي لم يأت من خارج المشروع، مشروع النظام المقترح، بقدر ما حاول تعميق أبعاده الإقليمية على اعتبار محورية مبدأ الحق في الخصوصية داخل النظام.

ويخلص إلى كون مستقبل الوطن العربي عموما، وعلى المستوى الثقافي بوجه خاص، لن يتأتى إلا بحماية الهوية الثقافية من الاختراق أو الغزو. فمستقبلها يكمن في الوعي بالتحديات وتحديد الرؤية الثاقبة لمواجهتها.

نبذة عن الكاتب

مقالات ذات صله

الرد