من فضلك اختار القائمة العلويه من القوائم داخل لوحة التحكم

    مهاجر إلى المجهول

   

الكاتب اليماني سهيل عثمان سهيل:

كانت الدار تودع ذكريات من ترعرع فيها، إذ إن أفكاره شاردة منذ شهرين، رغم انه بارا بوالديه مذ اشتد ساعده إلا هذه الأيام، صار بعيدا عنهم حتى في تبادل اطراف الحديث، يفكر بالرحيل لكنه لم يقرر بعد على اختيار بلد الرفاهية من اجل احلامه العالقة!
ظل يحاور نفسه؛
– ماذا لو غفت عيني واستيقظت على رؤية ساحل العاج؟
اؤمن ان المغامرة ستكون ناجحة فقد تواصل بي صديقي اللاجئ في ايطاليا فور وصول المهاجرين العرب قائلا:
– إن بلدك أصبح بؤرة للحالمين كما هو الحال مع ابناء بلدي العربي.
وعندما اراد ان يسمع اخبار وصول عاقل القرية ليختبأ حتى يجتمع بأقرانه ، نادته والدته لإعلان النفير متعجباً من معرفتها بالأمور التي يحكيها فلذة كبدها الوحيد !
إذ كان الفتى عصر الأحد من الأسبوع الماضي يتفقد أحوال الأشقياء، وكانت اخبار الفتى منتشرة في قرى مسقط رأسه، ظل طوال الاسبوع يوثق معاناة القاطنين في الأرياف ثم اذاعوا تحركاته وانتشرت اخباره وهو يثقف الشجعان لضرورة تغير عاقل القرية قبل مغادرته:
– ولو إلى فاسد آخر.. هكذا برهن ثورته للمجتمع القروي، المهم ان يوفر لهم اساسيات العيش على حساب الأسرة الريفية وباضعاف مضاعفة عن سكان المدن..
رد عليها:
– امي رجاءا لا ترافقيني هذه المرة.
خرج الفتى حاملاً أسطوانة الغاز الفارغة على كتفه، ليشاهده العاقل الذي طغى في توليه مستغلاً براءة القاطنين في قمم تلك الجبال الشاهقة، عندما اقترب تحدث عاقل الاسم بجهالة قبلية:
– اهلا وسهلا بالعميل.
لا زالت أسطوانة الغاز على كتفه، ينتظر مجيء الفتيان الذين ابرموا معه اتفاقاً لإبراز حقيقة الفساد في قريته والقرى المجاورة، كنت اراقب وقوفه كالأسد في غابة الكلب والذئاب، يتكبد حمولة المعاناة طيلة حكمه، وهو شاخص النظر اليه سمعته يستنشق عبق المعركة ونزاهة فتى ثائر لينظر يمنة ويسرة وهو سجين زفراته الاخيرة، اكتشف ان الخطة فشلت او حصل امرٌ ما للفتيان، مرت أكثر من ١٥ دقيقة واقفاً بعزة وشموخ اولاد الملحة(١) ليسقط اسطوانة الغاز ارضاً حتى يسمع صداها رجال القبيلة، كادت أن تصل إلى قدمي ذلك العاقل الحامل لذلك اللقب بجهالة وكبرياء شيوخٍ أسقطوا من سبقهم بالعدل والفساد معاً، ليتكلم الفتى بحشرجات سذاجة الفتيان الذين تخلفوا عن الموعد قائلا:
-عزيزي فلان، انا ابن فلان الفلاني ولا يهمني غياب الرفاق فالبعض مشغول بزراعة الأرض ولا يمكنهم الوقوف بجانبي الآن، لكن قل لي ماذا تقصد بخاتمة ترحيبك ؟
أراد الفتى أن يوضح له حقيقة عبارته الشهيرة وتكرارها عند ملاقاة أقرانه وهو يعلم انها اصبحت مكشوفة أمام هذا الفتى الحاذق إذ راح ضحيتها أكثر من فتى ينمو ضميره بعضلات لسان الحق ويزج بهم خلف القضبان..
كان العاقل يستمع اليه ويعبث بزنادين احدهم هاتفه والآخر سلاحا يطلقون عليه اسم كلاكنشوف، حينها راح الفتى يحبو منحنياً إلى قدمي ذاك الطاغية وتفاجأت نسوة من شرفات منازلهن ليلفظن الشهادة بدلا عنه، ليقترب الفتى من قدمه اليمنى وخارة قواه فقد دهس على يده الشريفة بقدمه العرجاء، حاول انتزاعها لتحريك اسطوانة الغاز وخابت آمال الفتى المهاجر إلى مصيره، ظن انه سيقبل قدميه ويتعهد له بعدم موالاة غيره لتصبح العقيدة محرفة والحقوق محتكرة والسياسة مصابة بداء العظمة، لا زال البطل الذي خسر كتيبته السابعة بدون تشيع احدهم ينويّ انتزاع روحه بدلاً من استرداد اسطوانة والدته فارغة، لتستمر معاناة أم الفتى كما هي الحال مع الأسر التي تباع حصتهم شهرياً، لكن سبقه العاقل الجهول واخذ يتمطى النظر الى محيطه ولم يكن بالمكان اي رجل غير الفتى ومن ينظرن للمشهد من خلف الكواليس، ثم رفع رأسه بغية أن يزفر غضبه ويتراجع ادراجه، فجأة حدث ما لم اتوقعه من اخبار النسوة فقلن:
– حاشى للفتى أن يفعلها وويلُ الحياة اذا طغى العاقل الجاهلُ.!!

انتهت.

مهاجر إلى المجهول :
قصة قصيرة من مجموعتي القادمة
#سهيل_عثمان_سهيل 2022

١- المرجع تلويحة المدى: من هم (أولاد المَلْحَة) ؟
يجيبنا شاكر لعيبي في المخيال العراقيّ قائلاً:

لنعد إلى إرث اللسان الشعبيّ البريء ظاهرياً، ولنرَ محموله السياسيّ والاجتماعيّ والأيروتيكيّ.
نحن نعرف ماذا يريد العراقيون بتعبيرهم “أولاد المَلْحَة”. فهو يعني غالباً أبناء السيدات الريفيات السمراوات اللواتي لوَّحت بشراتهنّ الشموس والفقر والعذابات والقهر الاجتماعيّ. “أولاد الملحة” هم أبناء الغالبية المطلقة من العراقيين. في العراق يقال (سوّوها أولاد الملحة) أي أنجزوا الصعاب التي طالما وقع الظنّ بأنهم غير قادرين على إنجازها.
“أولاد الملحة” الذي يشير إلى أبناء الطبقات الفقيرة في نهاية المطاف، هو دلالةَ اعتزازٍ وأنَفَة واعتداد بهذه الأصول الاجتماعية، وبقدرتها على تخطيّ الصعاب والذلّة.
ولعلّ أصل المفردة الشعبية المنسيّ (المَلْحَة) هو (المليحة) أو (الملحاء). وفي لسان العرب يتعلق الأمر بلون داكن تقريباً. المُلْحة من الأَلوان بياض تشوبه شعرات سود. والصفة أَمْلَح والأُنثى مَلْحاء. وكل شعر وصوف ونحوه كان فيه بياض وسواد فهو أَمْلح، وكبش أَمْلَحُ بَيِّنُ المُلْحةِ والمَلَح. وفي الحديث أَن الرسول أُتيَ بكبشين أَمْلَحَينِ فذبحهما؛ الأَمْلَح الذي فيه بياض وسواد ويكون البياض أَكثر. وقد امْلَحَّ الكبش امْلِحاحاً أي صار أَمْلَح؛ وفي الحديث (يُؤْتى بالموت في صورة كبش أَمْلَح)؛ والمَلْحاء من النِّعاج هي الشَّمطاءُ تكون سوداء تُنْفِذها شعرةٌ بيضاء. والأَمْلَحُ من الشَّعَرِ نحو الأَصْبَح وجعل بعضهم الأَمْلَح الأَبيضَ النقيَّ البياض وقيل المُلْحة بياض إِلى الحمرة ما هو كلون الظبي؛ ورجل أَمْلَحُ اللحية إِذا كان يعلو شعرَ لحيته بياضٌ من خِلْقةٍ، ليس من شيب، وقد يكون من شيب ولذلك وصف الشيب بالمُلحَة؛ والمُلْحة والمَلَحُ في جميع شعر الجسد من الإِنسان وكلِّ شيء بياضٌ يعلو السواد. والمُلْحة أَشدُّ الزَّرَق حتى يَضْرِب إِلى البياض.
وفهل نكون هنا قد ابتعدنا عن مفهوم الملاحة، الحُسْن؟ الأصل هو مَلُحَ يَمْلُحُ مُلُوحةً ومَلاحةً ومِلْحاً أَي حَسُنَ، فهو مَليح ومُلاحٌ ومُلاَّح. واستَمْلَحه عَدَّه مَلِيحاً؛ وقيل جمع المَلِيح مِلاحٌ وأَمْلاح، مثل شَرِيف وأَشْراف. وفي حديث جُوَيرية (وكانت امرأَة مُلاحةً) أَي شديدة المَلاحة، وهو من أَبنية المبالغة، أَي ذات مَلاحة، وفُعالٌ مبالغة في فعيل مثل كريم وكُرام وكبير وكُبارٍ، وفُعَّالٌ مَشدّداً أَبلغ منه. وفي حديث عائشة، قالت لها امرأَة (أَزُمُّ جَمَلي هل عليَّ جُناحٌ؟) قالت لها لا، فلما خرجت قالوا لها إِنها تعني زوجها، قالت (رُدُّوها عليَّ، مُلْحةٌ في النار اغسلوا عني أَثرها بالماء والسِّدْرِ)؛ المُلْحَة هي الكلمة المليحة، وقيل القبيحة. وقولها اغسلوا عني أَثرها تعني الكلمة التي أَذِنَتْ لها بها، ردُّوها لأُعلمها أَنه لا يجوز. ويقال مَلَّحْتُ القِدْر إِذا أَكثرت مِلْحَها، بالتشديد، ومَلَّحَ الشاعرُ إِذا أَتى بشيء مَلِيح. والمُلْحَةُ، بالضم هي واحدة المُلَحِ من الأَحاديث. والمُلَحُ من الأَخبار، بفتح الميم. والمِلْحُ العلم. وأَمْلِحْني بنفسك أي زَيِّنِّي؛ سأَل رجل آخر فقال (أُحِبُّ أَن تُمْلِحَني عند فلان بنفسك) أَي تُزَيِّنَني وتُطْريَني. أما أيروتيكياً فإن المُلاَّحُ بتشديد اللام، أَمْلَحُ من المَليح؛ وقد يُكنّى به عن الفرْج. قال [الشاعر] (تَمْشي بجَهْمٍ حَسَنٍ مُلاَّحِ – أُجِمَّ حتى هَمَّ بالصِّياحِ) يعني عضوها، وهذه الصيغة صيغة مبالغة.
وهنا نرى أن (أبناء الملحة) دلالةَ اعتزاز مماثِل بالجَمَال والملاحة والفتنة الجسدية الخارجة من الفقر والجوع والإهمال، والتي لم تستهلكها تلك الشروط وتحطّ من شأنها وتروّضها.
ما أعظم بلاغة اللسان الشعبيّ أيضاً.

نبذة عن الكاتب

مقالات ذات صله

الرد