تحليل للدكتورة/ نادية حلمى
الخبيرة المصرية فى الشؤون السياسية الصينية والآسيوية- أستاذ العلوم السياسية جامعة بنى سويف
مع إشتداد التنافس بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين على الصعيد العالمى، وصلت أصداء هذا التنافس إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتحديداً تلك المتعلقة بالقضية الفلسطينية وتسوية الصراع العربى الإسرائيلى، حيث باتت ترفض الصين وبشكل متزايد الإعتماد حصرياً على مظلة الأمن الأمريكية فى المنطقة. ويشكل الوجود الأمنى المتزايد للصين فى المنطقة معضلة للولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها. وتلعب إستثمارات البنية التحتية الحيوية للصين دوراً رئيسياً فى تعزيز الوجود الأمنى للصين فى قلب المنطقة. وهنا باتت الصين أكثر إستعداداً لمشاركة التكنولوجيا العسكرية الحساسة والتعاون فى البحث والتطوير مع الشركاء الإقليميين فى منطقة الشرق الأوسط، فقد أعلنت الصين والسعودية عن خطط لإنتاج طائرات مسيرة بشكل مشترك، وتشير عدد من التقارير العسكرية الأمريكية والدولية فى عام ٢٠٢١، إلى أن السعودية كانت تنتج صواريخ باليستية بدعم تكنولوجى صينى. وتتمسك الحكومة الصينية بالمبدأ الأساسى”دفع الأمن بالتنمية لحل إشكالية القضايا فى منطقة الشرق الأوسط”، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. ويرجع السبب الهام لإضطرابات الشرق الأوسط من وجهة النظر الصينية إلى قضية التنمية، وتعتمد طريق تسويتها النهائية على التنمية أيضاً. وهو ذاته ما أكده الرئيس الصينى “شى جين بينغ” خلال خطاباته، بإشارته تحديداً إلى أنه:
“لا يمكن لشجرة السلام أن تنبت فى أرض جدباء، ولا يمكن قطف ثمر التنمية وسط نيران الحرب المشتعلة ودخانها الذى يملأ السماء”
وتتبع الصين “إستراتيجية الآراء الأربعة” التى طرحها الرئيس الصينى “شى جين بينغ” لدفع التسوية السياسية للقضية الفلسطينية، وتتمسك بالعمل على دفع عملية السلام للشرق الأوسط، وتدعم القضية العادلة لشعب فلسطين فى إستعادة حقوقه المشروعة، وتدعم الصين السلطة الفلسطينية فى إقامة دولة مستقلة ذات سيادة كاملة على حدود عام ١٩٦٧ وعاصمتها القدس الشرقية. وهنا قام المبعوث الصينى الخاص لمنطقة الشرق الأوسط بعدة جولات للوساطة بين دول المنطقة خلال السنوات الأخيرة، من خلال العمل على حل الإختلافات بين الجميع ودفع عجلة الحوار. وتدعو الصين من خلال وجودها فى الأمم المتحدة وغيرها من المحافل العالمية المجتمع الدولى إلى تعزيز دعم وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، والتى تعرف دولياً بإسم (وكالة الأونروا)، كما باتت الصين تلعب دوراً إيجابياً وبناء فى تحقيق ودفع عملية السلام الشامل فى الشرق الأوسط. وحتى فى الملف السورى، فباتت الصين كذلك بمثابة القوة الثابتة لدفع التسوية السياسية وتعزيز السلام فى المنطقة.
وهنا جاء تصريح السفير الصينى لدى الأمم المتحدة فى يوليو ٢٠١٧ “ليو جيه يى”، بتأكيده على أن “الصين تعتبر فلسطين وإسرائيل شريكين مهمين فى مبادرة الحزام والطريق الصينية، وهى مستعدة للعمل ضمن مفهوم التنمية من أجل السلام بهدف دفع فلسطين وإسرائيل للإنخراط فى تعاون ينفع كلا الطرفين”. وجاء أول تطبيق صينى عملى على تصريح السفير الصينى فى الأمم المتحدة “ليو جيه يى”، من خلال تأهل (شركة الصين الوطنية لإستيراد التقنية وتصديرها)، وهى شركة مملوكة للدولة الصينية، للجولة الأخيرة من التنافس على تنفيذ المرحلة الأولى من مشروع “قناة البحرين” الذى تشارك فيه إسرائيل والسلطة الفلسطينية والأردن.
كما جاء تأكيد السفير الصينى لدى فلسطين “قوه وى” يوم الاثنين ٢٩ يونيو ٢٠٢٠، بأن الصين ترفض أى مساعي للإحتلال الإسرائيلى لضم أى جزء من أراضى فلسطين، وتعارض الصين لأى إجراءات أحادية الجانب لإلحاق أضرار بالإستقرار والسلام. وفى ذات السياق، جاء تأكيد خطاب وزير الخارجية الصينى أمام مؤتمر مجلس الأمن حول القضية الفلسطينية يوم الأربعاء ٢٤ يونيو ٢٠٢٠، مؤكداً أن القضية الفلسطينية قضية مركزية من قضايا الشرق الأوسط وإيجاد حل عادل وشامل لها هو شرط مسبق من أجل تحقيق السلام والأمن فى المنطقة، لأن الصين تشعر بقلق عميق إزاء التوتر المستمر فى المنطقة خصوصاً بين فلسطين وإسرائيل.
وتحاول الصين تقديم نفسها كطرف مقبول لحل إشكالية الصراع العربى الإسرائيلى تنموياً من أجل السلام عبر مبادرتها للحزام والطريق، خاصةً مع رفض الفلسطينيين للرعاية الأمريكية الحصرية لعملية التسوية السياسية بالشرق الأوسط، نظراً لإنحيازها ناحية إسرائيل، ومطالبتهم برعاية دولية وصينية لعقد مؤتمر دولى للسلام، وهو ما ترفضه إسرائيل بشدة، بينما تشجع عليه بكين. خاصةً مع توقف مفاوضات حل النزاع العربى الإسرائيلى بين الفلسطينيين وتل أبيب منذ أبريل ٢٠١٤، نظراً لرفض الإسرائيليين الإفراج عن معتقلين قدامى، ووقف الإستيطان، والقبول بحدود ما قبل حرب يونيو ١٩٦٧ كأساس لحل الدولتين.
وتقوم المبادرة الصينية للحزام والطريق فى الشق السياسى منها وربطه بالتنموى لدى الصين لتحقيق عملية السلام الشامل فى الشرق الأوسط على ضرورة إستكشاف الطرق التنموية لكل دول من دول المنطقة بإرادتها المستقلة، مع تعهد الصين بدعم دول الشرق الأوسط لحل قضايا الأمن الإقليمى عبر التعاون والتنسيق، وبذل الجهود المشتركة للتشارك مع الصين فى بناء “الحزام والطريق” وتنفيذ مبادرة التنمية العالمية التى أطلقها الرئيس الصينى”شى جين بينغ” سعياً لتحقيق التنمية فى منطقة الشرق الأوسط كمدخل حقيقى للسلام وفقاً لوجهة النظر الصينية. وهنا تدفع الصين بتنفيذ مبادرة الأمن العالمى، وتدعو لإقامة الهيكل الأمنى الجديد المشترك والشامل والتعاونى والمستدام فى الشرق الأوسط، مما يسهم بالحكمة والحلول الصينية في التسوية السياسية للقضايا الساخنة الإقليمية، وذلك وفقاً للتفسير الدقيق الذى أكده السفير الصينى “قوه وى” مدير مكتب جمهورية الصين الشعبية لدى دولة فلسطين خلال مقابلة معه فى المواقع الفلسطينية يوم الثلاثاء ١٧ يناير ٢٠٢٣.
وجاء الرد الصينى عملياً لدعم القضية الفلسطينية دولياً، من خلال تصويتها لصالح الفلسطينيين ومهاجمة سياسات التصعيد الإسرائيلى خلال إنعقاد جلسة مجلس الأمن الدولى فى جلسته الطارئة حول القضية الفلسطينية يوم ٥ يناير ٢٠٢٣، ودفع الصين فى إتجاه قيام مجلس الأمن الدولى بدوره الواجب لحل إشكالية القضية الفلسطينية. مع رؤية وزارة الخارجية الصينية بأن تصعيد الوضع بين الإسرائيليين والفلسطينيين ناتج عن توقف مفاوضات السلام بينهما والتأخير فى تحقيق “حل الدولتين”.
وبناءً عليه، يجادل عدد متزايد من الخبراء والمحللين داخل الصين بضرورة التدخل أكثر فى قضايا الشرق الأوسط وزيادة النفوذ الأمنى والعسكرى الصينى، ويرون أن مبادرة الحزام والطريق ستخلق نظاماً إقتصادياً خارج سيطرة واشنطن، مما سيولد فى مرحلة ما تحدياً للهيمنة الأمريكية. إضافة إلى أن نقاط ضعف السياسة الأمنية للولايات المتحدة في المنطقة أصبحت أكثر وضوحاً مع احتدام المعركة بين واشنطن وطهران. هناك أدلة متزايدة على استعداد دول المنطقة -لا سيما الخليج- لاستكشاف ترتيبات أمنية بديلة. ويمكن أن تكون إحدى الصيغ المستقبلية لهذا الأمر فى “هيكل أمن جماعى” يجمع بين اللاعبين الإقليميين الرئيسيين ولاعبين دوليين من خارج الإقليم، بما فى ذلك الصين وروسيا، وربما الهند.
وفى إطار حرص الصين على دفع عملية السلام الشامل فى منطقة الشرق الأوسط وحل وتسوية الصراع العربى الإسرائيلى وكافة القضايا الأمنية والإستراتيجية فى المنطقة، فقد عقدت الحكومة الصينية الدورة الثانية لمنتدى أمن الشرق الأوسط فى العاصمة الصينية بكين يوم ٢١ سبتمبر ٢٠٢٢، تحت عنوان: “دفع بناء إطار جديد لأمن الشرق الأوسط، وتحقيق الأمن الإقليمى المشترك”. وترأس “وانغ يى” بصفته مستشار الدولة ووزير الخارجية الصينى حينئذ للجلسة الإفتتاحية للمنتدى عبر الفيديو، مؤكداً أن الصين تحرص على إغتنام الفرصة لتنفيذ مبادرة الأمن العالمى التى طرحها الرئيس الصينى “شى جين بينغ”، للعمل مع دول الشرق الأوسط والمجتمع الدولى على دفع بناء إطار جديد لأمن الشرق الأوسط.
لذا، دار الجدل دولياً وداخل الصين نفسها حول ما إذا کانت مبادرة الحزام والطريق مشروعاً إقتصادياً فى المقام الأول، أو ما إذا يمكن ربطه بأهداف سياسية وأمنية أخرى تمس مصالح الصين، إذ يجادل بعض الخبراء والمحللين الصينيين المؤثرين، بأن هدف المبادرة والبنك الآسيوى للإستثمار فى البنية التحتية هو تحدى للنسق الدولى الحالى، وللتخلص من هيمنة واشنطن، وأن المبادرة تعد تعبيراً عن إستراتيجية الصين الكبرى الجديدة، وبالتالى، تهدف بكين لإضفاء رؤيتها لبناء نظام عالمى جديد بقيادة صينية. وحذر تقرير حديث للكونغرس الأمريكى حول القوة العسكرية الصينية من أن بكين يمكن أن تقوم قريباً بإستخدام هذه المساهمات لإنشاء قواعد عسكرية فى كل المنطقة. ويتسق هذا النظر مع العقيدة العسكرية الصينية الأخيرة، والصادرة عام ٢٠١٩، والتى تتبنى رؤية صينية واسعة للأمن القومى تشمل الإنخراط العسكرى الصينى فى حالات تهديد السلامة الإقليمية للصين، بما فيها تهديد السيادة البحرية والفضاء وإستعادة الوحدة الوطنية وصيانة المصالح الصينية فيما وراء البحار مع الإحتفاظ بالردع الإستراتيجى والإعداد لضربات نووية مضادة والمشاركة فى التعاون الأمنى الإقليمى والدولى وتعزيز القدرة على منع الإختراق ومنع الإنفصال ومكافحة الإرهاب وضمان الأمن السياسى القومى والإستقرار الإجتماعى وحماية حقوق ومصالح الشعب الصينى فى كل مكان.
وتربط الصين مبادرتها التنموية للحزام والطريق بحل النزاعات والتدخل فى الصراعات عن طريق تحسين حياة ورفاهية الشعوب الفقيرة والنامية وتحقيق السلام الشامل عالمياً، لذا أطلقت الصين مبادرة الأمن العالمى كجزء من الرؤية الصينية الجديدة والشاملة للتنمية من أجل السلام. وهنا حددت قيادات الحزب الشيوعى الحاكم فى الصين شعار “حلم المائة عام”، وهو ما يتزامن مع حلول الذکرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعى الصينى، أو کما تسمى الصين الجديدة ٢٠٢١. وحددت الصين رؤيتها الشاملة للسلام المرتبط بالتنمية عالمياً من خلال مبادرتها للحزام والطريق جغرافياً، والتى باتت تعرف بـ “الدبلوماسية الصينية المحيطة”
Peripheral Diplomacy
وتتمحور تلك الدبلوماسية المحيطة، حول إفتراض أن الصين تقع فى مرکز العالم، بينما الدول الأخرى المجاورة على الهامش، ولکنها تتجاوز ذلك لتشمل معظم أنحاء العالم، کما أن قيم المبادرة تشبه إلى حد کبير قيم الدبلوماسية المحيطية، بمعنى أنها تعنى قيم: الإنفتاح والشمول وربح للجميع من أجل تعاون إقتصادى متوازن، وتعكس أهدافها بالمثل أهداف الدبلوماسية المحيطية، وهى: تنسيق السياسات، وتوصيل المرافق، والتجارة دون عوائق، والتكامل المالى. وهنا يرى البعض مبادرة الحزام والطريق بإعتبارها إستراتيجية تسعى فى المقام الأول لإعادة بناء النظام الإقليمى بوضع الصين کزعيم لنظام آسيوى مرکزى، وبعده بناء نظام عالمى جديد بقيادة الصين.
Sinocentric Asian Order
إتجهت الصين نحو تحقيق هدف أن تكون وزن فاعل دولى مؤثر دولياً، بطرحها مبادرة الحزام والطريق، وفي هذا السياق، ذکر نائب وزير الخارجية الأمريكى “روبرت زوليك” في عام ٢٠٠٥ أثناء خطابه باللجنة الوطنية للعلاقات الأمريكية الصينية أنه “نحتاج الآن إلى تشجيع الصين على أن تصبح صاحب مصلحة مسؤول فى النسق الدولى
Stakeholder
وفى هذا الإطار، صاغ کل من “نيال فيرجسون” و”موريتز شولاريك” مصطلح “شيميركا”
Chimerica
وهذا المصطلح يصف علاقات الإعتماد الإقتصادى المتبادل بين أمريكا والصين، والتى ظلت محركاً رئيسياً فى الإقتصاد العالمى لسنوات، وأبرز مثال على الترابط الإقتصادى الصينى الامر کان شراء الصين للأوراق المالية الحكومية الأمريكية التى تمول عجز الميزانية الأمريكية.
وتشكل التعددية القطبية – من وجهة النظر الصينية – أساساً هاماً لتحقيق سلام دائم في العالم حيث أنها ستؤدى إلى بناء نظام سياسى وإقتصادى عادل وستضع إطار عمل سياسي دولي مستقر نسبياً وتعزيز التبادلات والتعاون، إذ يجب أن تکون الدول جميعًا أعضاء متساوون في المجتمع الدولي دون الهيمنة مع اتباع نموذج للتنمية المشترکة في إطار من الثقة المتبادلة والمساواة والجوار ومحاولة تسوية المنازعات من خلال السبل السلمية والحوار، وهو النهج الذي تمسكت به الصين. وبذلك، رفضت السياسة الخارجية الصينية فكرة الأحادية القطبية، داعية إلى بناء نسق دولى جديد يحقق مصالح جميع الدول ولا يسمح بإنفراد دولة بقيادة العالم حيث ترى الصين أن التعددية القطبية تمثل قاعدة مهمة للسلام العالمى، وأن إضفاء الطابع الديمقراطى على العلاقات الدولية ضمان أساسى لهذا السلام، ولابد أن تستفيد کافة الأمم على قدم المساواة من الآثار الجانبية للعولمة بأبعادها المختلفة خاصة الإقتصادية فى القرن الحادى والعشرين.
ويمكن تتبع مسار التدخلات السياسية والأمنية للصين فى الشرق الأوسط من خلال التعرف على أبرز المسارات التنموية والتعاونية الإستثمارية والإقتصادية للصين من خلال مبادرتها للحزام والطريق، فقد أبرمت الصين إتفاقيات شراكة مع ١٥ دولة فى المنطقة، شملت إسرائيل والسلطة الفلسطينية، كما شاركت فى مهمات مكافحـة القرصنة والأمن البحرى فى كلاً من: بحر العرب وخليج عـدن، وذلك وفقاً لإحصائيات المجلس الأوروبى للعلاقات الخارجيـة. وعلى ضوء ذلك، قلت إعتمادية الصين علـى البنيـة الأمنية التـى تقودها الولايات المتحـدة الأمريكية، مع زيادة التحول الإستراتيجى الأمريكى تجاه منطقة شرق آسـيا، لذا أدت جميع هــذه العوامل مجتمعة لزيادة مشـاركة الصين فى قضايا الشرق الأوسط وشـؤون الأمن والسياسـة فى المنطقة.
وهنا تحاول الصين إتباع إستراتيجية تنموية شاملة لتحقيق عملية السلام الشامل فى منطقة الشرق الأوسط. فمن المنظورالصينى، فـإن التنميـة التى تسعى إليها الصين فى المنطقـة هى أحد الحلول لضمان منطقـة مسـتقرة أمنياً وفقاً لوجهة النظر الصينية، والمتعلقة برؤيتها لمبادرة الحزام والطريق، بالإضافة إلى إستراتيجيتها لضمان سلامة المقيمين الصينيين المتواجدين فى كافة دول منطقة الشرق الأوسط، والذين تقـدر أعدادهم بحوالى ٥٥٠ ألف مواطن صينى، وذلك وفقاً لدراسة صادرة عـن جامعة جورج تاون فى قطر، بعنوان:
The Red Star and the Crescent